رغم قسوة التعليقات التي أتلقاها من قراء إيلاف، وإصدار الأحكام من بعضهم بعدم مصداقية ما أنشره، وخاصةً في الحوار مع فريد الأطرش، لأن البعض منهم لم يطلع على لقائي مع زاهي وهبة في برنامج (خليك بالبيت)، الذي أسمع المشاهدين فيه عدد من لقاءاتي مع الأدباء والفنانين ومنهم الدكتور طه حسين، والعقاد، وفريد الأطرش، وغيرهم.. وقد ظهرت أصواتهم على الهواء في فضائية المستقبل.. إلا أن البعض من هؤلاء القراء في إيلاف قد غالى في السخرية والتجريح والاتهامات الظالمة.. ومع هذا إذا كانت الظروف التقنية في إيلاف تسمح ببث الأشرطة المسجلة فلدي العشرات بل المئات من هذه الأشرطة التي تحتوي على لقاءات مع أعداد من الأدباء والفنانين والمفكرين والسياسيين، والتي كنت أجريتها معهم ضمن برامج إذاعية كنت أقدمها لسنوات طويلة، وقد نشر البعض منها في كتابي (شخصيات عرفتها وحاورتها) الذي صدر العام الماضي.. فسامح الله أولئك الذين يصدرون أحكاماً دون أن يتأكدوا من صحتها.

* * *

bull; وقد تعلمت من عثمان العمير ألا أعير تجريح القراء كثير الاهتمام، فالذين جُبلوا على الشتم لا يستحقون الاهتمام، لأن الفرق بين الشتم والنقد أمره واضح لمن يعمل في هذا الحقل المرهف، والمرهق في نفس الوقت!!..

* * *

bull; كما تعلمت من زكي نجيب محمود : أنه كلما طُرح أمامي سؤال ينتظر الجواب في عالم الكتابة والتفكير والثقافة، وجدت أن أيسر طريق وأنجح طريق هو أن أقف طويلاً عند الكلمات التي تؤلف عنوان السؤال، فإذا ما صببت عليها أضواء التحليل التي تُخرج مكنونها، وتفسر عناصرها، وجدت أخيراً الجواب المطلوب قد انبثق منها من تلقاء نفسه : (فكلمة خواطر) تُفسح المجال أمام ما يجول في الفكر من تتابع الصور المتلاحقة مما أختُزن في ذهن الانسان، لتظهر وفق تراتبية منطقية بعد أن يخضعها الى عملية التقطير والتنظيم لتبدو واضحة عند قارئها.

bull; وخاطرة اليوم عندي مرتبطة بقضايانا الحضارية قديماً، وانعكاسها على حاضرنا!!..

bull; فعندما أسدل القرن الخامس عشر ميلادي ستاره، بعد وفاة ابن خلدون، فقد أُقفل باب الابداع عند العرب، ليُفتح على مصراعيه في أوروبا!!.. فالعرب عاشوا ثلاثة قرون بعد ذلك التاريخ، كانت مراكز التدريس عندهم لا تضيف شيئاً جديداً عما كان سائداً في القرون السابقة، فالمدارس كانت هي المساجد والجوامع، جامع الأزهر في مصر، والجامع الأموي في دمشق، وهلم بما هو على نفس الشاكلة في بعض المدن الأخرى، كالقيروان، والمدينة، أما بقايا الكوفة والبصرة فقد قضى عليها الغزو المغولي، وكلها كانت تحصر جهودها في حفظ التراث وشرح غوامضه!!..

ثلاثة قرون عقب القرن الخامس عشر لم تر الثقافة العربية جديداً!!.. فلما جاءت أوروبا تطرق أبوابنا عام 1798، وبدء القرن التاسع عشر بعامين، جاءت حملة نابليون ومعها مجموعة من العلماء الى مصر، واتخذت القاهرة مركزاً لها، أخذوا يدعون مشايخ الأزهر ليطلعوهم على ما جاؤوا به من العلم الحديث، كان غرضهم إفهام هؤلاء الأزهريين أن العالم قد دخل الى دنيا جديدة في علوم الكهرباء، والفيزياء، والكيمياء، وغير ذلك من العلوم الأخرى.

كان مشايخ الأزهر يرون تلك الأعاجيب وكأنهم أمام أعمال سحرية!!.. إلا واحداً منهم استبد به الغيظ وسأل الفرنسيين : هل تستطيع علومكم هذه أن تجعل من الانسان واقفاً هنا في القاهرة، وفي الوقت نفسه يكون في بلادكم؟!.. فأجابوه : إن ذلك مستحيل!!.. فقال لهم : إن علومنا تستطيع فعل ذلك!!.. أنتم لكم علومكم ونحن لنا علومنا الروحية التي تستطيع فعل ذلك!!..

bull; عند هذه اللحظة تيقنتُ أن خارطة طريق الفكر العربي قد اندثرت، وتناسل اندثارها الى ما نحن عليه اليوم!!.. كيف؟!..

bull; إنها اللحظة التي قَبِل بها مشايخ الأزهر هذه العلوم الجديدة، وقدَّرها البعض منهم حق قدرها، وجاء من هؤلاء المشايخ من يرفضها، أو يستمع إليها، أو يُنصت الى ما يقوله علمائها : فانبثق خطان في ثقافتنا امتدا جنباً الى جنب حتى يومنا هذا!!..

خط لا يمانع في أن يُطالع ويطَّلع، ويدرس ويُدرس علوم الوافد الجديد.. وخط آخر يرفضه لأنه يشعر بعدم حاجته إليه، بل يراه يصطدم مع معتقده!!..

وقد سار هذان الخطان لا يلتقيان معاً إلا في شيء واحد هو المنهج.. ولكن أي منهج؟!.. إنه الحفظ، كان خط الذين يكتفون بالموروث يحفظون ما استطاعوا حفظه من ذلك التراث، أما الخط الثاني فكان علوم الكيمياء، والفيزياء، والرياضيات، الخ.. ولكنها دراسة حفظ أيضاً (الحفظ الأصم) بات منهجاً للطريقين.. ففرق بين الخطين، إلا أن أحدهما يحفظ القديم والثاني يحفظ الجديد بدون ابداع!!..

تُرى لماذا لا ابداع؟!.. ألسنا ورثة أولئك الذين ظلوا يبدعون حتى بلغ ابداعهم الآفاق؟!..

كلا!!.. لأنه في أواسط القرن التاسع عشر استُعمرت بلادنا من صاحب العلم الجديد والحضارة الجديدة والثقافة الجديدة!!..

وهنا عادا ndash; الخطان ndash; والتقيا على هذه النكبة الجديدة : وهي أننا أصبحنا ذيولاً لا سادة.. فبعد أن كنا نُصدر العلوم والمعرفة في القرون السابقة على القرن الخامس عشر، صرنا مرغمين على استيرادها!!.. وممن؟!.. من أولئك الذين يفرضون هيمنتهم على بلادنا!!..

وهنا انقسم الخط الذي يدرس ويقبل ثقافة الغرب وعلومه على نفسه، فأصبح هو الآخر فيه طرفان : طرف تطرف وقال بأنه يقبل كل ما عند أوروبا من مصادر ثقافية لتملأ حياتنا!!.. وطرف آخر يريد إيجاد صيغة جديدة للتعامل مع هذا الوافد، بحيث نأخذ منه ما يتوائم مع هويتنا العربية الاسلامية!!.. وتفرعت عن هذا التوجه عند الطرفين ثلاثة جماعات متناقضة التفكير!!..

- كالسلفية مثلاً : فهذه الجماعة ثتقفت بثقافة، وتعيش على ثقافة أخرى..

- وجماعة أخذت عن الغرب لأنها لم تُفلح في أن تكون ذات رؤية واحدة، فكان فيها المتطرف، والمعتدل الذي يريد صيغة جديدة للانسان العربي المسلم!!.. واستمر الخطان على ثقافة مثلثة الجوانب، وليس فيها كلها أي جانب من جوانب الابداع!!..

فالخط السلفي لا يُبدع لأنه يتَّبع، والمعتدل هو الخط المسؤول الآن بالدرجة الأولى عن الثقافة العربية المعاصرة.. ما بين هذه الخطوط المتعارضة والمتفاوتة فيما وصل إلينا من أسلاف ما بعد القرن الخامس عشر وحتى الآن، لم تتبلور لدينا فلسفة ممنهجة خالية من تأثيرات ما تدفق علينا من العلوم الوافدة!!.. وهكذا نحن نعيش في حاضر باتت نتائجه واضحة للعيان، بعد أن أصبحنا أمثولة لأقصى أنواع الانحطاط التي تعانيه الأمم المتخلفة!!..

* * *

bull; هذا ما قادتني إليه خاطرة اليوم.

وعلى ضوء نضج الملاحظات التي سيتكرم بها القراء الأفاضل، ستنبثق خواطر أخرى حول نفس الموضوع لما له من أهمية إذا ما سُقيت شجرته بمياه ردود أفعال قراء إيلاف وتعليقاتهم ونقدهم القائم على المشاركة الفعلية في إنضاج هذه الخاطرة، أو خواطرهم التي ستُثري النقاش!!..

فما أكثر الوقت الذي يُستنزف فيما لا فائدة منه، وما أثمن الوقت الذي يُدعّم قضايانا!!..

bull; فقط لي ملاحظة صغيرة للأخوة الذين اتخذوا من الضرب على الكيبورد وسيلة للتسلية، أو لإثارة ما يعتلج في نفوسهم من هدف لا يحده وازع مسؤول، أن يكفوا نشاطهم في هذا الموضوع بالذات.. لعلنا نتمكن من فتح نافذة جديدة لنقاشٍ مثمرٍ حول قضايانا المعاصرة، التي ما أحوجنا للنقاش فيها وبلورة ما يستجد لدينا من أفكار!!.. مع الشكر.