بالإضافة إلى القتل بالأسلحة الكيميائية والتقليدية، وتحت التعذيب، والموت بالإخفاء. وبالإضافة إلى الاقتلاع والتهجير والتشرد، والموت في البحار والبراري. ها هم السوريون يبدأون رحلة جديدة مع الموت. ملايين السوريين باتوا مهددين بالموت جوعاً في أنحاء مختلفة من سوريا، إذ لم يعد خافياً حقيقة إستراتيجية الموت حصاراً التي تتبعها قوات نظام الأسد في جميع المناطق الخارجة عن سيطرتهم، والتي عادة ما يطلقون عليها صفةquot; البيئة الحاضنة للثورةquot;، وذلك كنوع من العقاب لأهل تلك المناطق ومحاولة لإعادة إرضاخهم لحكم الأسد ثانية. ويأتي ذلك طبعاً في سياق سياستهم الشهيرة quot;الأسد أو نحرق البلدquot;.
وثمة مناطق عدة في سوريا بدأت تظهر عليها أثار الحصار جلية، وخصوصاً المناطق المحصورة ضمن الإطار العمراني للمدن، مثل معضمية الشام غرب دمشق ومخيم اليرموك جنوب دمشق ومنطقة الوعر في حمص، والمشكلة في هذه المناطق أنها في أغلبها مغلقة وتنحصر مداخل العبور إليها ضمن نقاط محددة، عادة ما يسميها الناس بالمعابر، تشبيها لحالة حصار غزة ومعابرها التي كان الجنود الصهاينة يتحكمون بحركة الدخول والخروج منها، أما بقية الإتجاهات فيها فهي إما مناطق فارغة من العمران والشجر وبالتالي لا يمكن تجاوزها لأن النظام يرصدها بقناصته، أو مناطق موالية للنظام كما هو حال شارع نسرين شرقي مخيم اليرموك، ومواقع الفرقة الرابعة أيضاً شرقي معضمية الشام.
الحاصل أن هذه المناطق بالتحديد قد استنزفت، على مدار أشهر الحصار، كل مخزونها التمويني، وكل ما خبأته البيوت والأسر، ولم يبقَ لديها ما يمكن التحايل على تسميته بالطعام، خصوصاً وأن بعضها قد خضع للحصار المطبق لأكثر من عشرة أشهر متواصلة، والمشكلة الأكبر في هذا الأمر أن سكان هذه المناطق أيضاً استنزفوا كل ما كان لديهم من نقود في مراحل سابقة من الحصار، حين كانت حواجز النظام تتقاضى مبالغ مضاعفة مقابل تمرير بعض السلع الغذائية، وعندما شعروا أن السكان لم يعد لديهم ما يدفعونه ثمن طعامهم من هذه السوق السوداء أعلنوا الحكم عليهم بالإعدام جوعاً وأحكموا تالياً إغلاق جميع المعابر المؤدية لهذه المناطق.
ولا يستطيع أهل تلك المناطق مغادرتها والدخول إلى المدن، ذلك أن حواجز النظام لديها قوائم بأسماء عشرات، إن لم يكن مئات الألاف، من الأهالي المطلوبين تحت ذرائع مساعدة quot;المتمردينquot;، فلا يستطيع أحد ضمان نجاته وإفلاته من الإعتقال على هذه الحواجز ثم إخفائه نهائياً أو قتله تحت التعذيب، وهو ما حصل مع كثيرين من مخيم اليرموك، إذ أن أشخاصاً كثر لم يكن لهم علاقة بالثورة من قريب أو بعيد، وخرجوا وهم على ثقة بأن لا أحد سيتعرض لهم، لكنهم عادوا الى المخيم بعد أيام جثثاً هامدة.
الكثير من العائلات في هذه المناطق المحاصرة بدأ الجوع ينهكها، وأخذت نذر الموت تلوح فوق رؤوسهم، البعض دفنوا موتاهم وعادوا ينتظرون مصيرهم، علّ الأقدار تأتيهم بجديد يخرجهم من خانة الموت المؤكد، فلا خيار آخر لهم، ذلك أنهم لو فكروا بأن يفروا من الموت المؤجل فثمة موت مؤكد ينتظرهم على المعابر، هناك لا احتمال ثان، ولا انتظار لأقدار أخرى. وترفض العائلات التضحية بواحد من أفرادها أو أكثر قد يكونون مطلوبين على تلك الحواجز، أو حتى قد تجري تصفيتهم من قبل عناصر تلك الحواجز إشتباهاً، أو حتى مزاجياً، في ظل التفويض بالقتل الذي يملكه جندي بأصغر رتبة عسكرية. لا أحد يمكن أن يغامر بأبنائه أمام هذه المزاجية.
لا يقتصر حكم الموت حصاراً وتجويعاً على هذه المناطق، إذ تعاني أرياف درعا وحمص وإدلب الحصار الخانق ذاته، إلا أن تأجيل موعدها مع الجوع القاتل سببه قدرة هذه المناطق على إنتاج الأغذية ذاتياً عبر زراعة الأرض، وهو ما يخفف، موقتاً، من حجم الكارثة، ولكنه لا يلغيها على المدى البعيد، ذلك أن هذه المناطق باتت تفتقر لأشياء كثيرة لها علاقة بالزراعة مثل المحروقات التي يرفض النظام إدخالها، فضلاً عن حقيقة أن هذه المناطق أصبحت مع الزمن شبه مدنية، بمعنى أنها صارت تحتاج إلى الإمداد اليومي من المدينة في كثير من مستلزماتها، وهذا النمط الحياتي المدني أضعف قدرتها على الصمود في وجه الحصار الخانق الذي تتعرض له اليوم.
يحصل ذلك، فيما تذهب مساعدات منظمة الأغذية العالمية وبرنامج الأمم المتحدة لإغاثة المنكوبين إلى أهالي طرطوس واللاذقية، بحجة وجود نازحين من مدن أخرى لجأوا إلى هاتين المدينتين، فيما تكاد تنحصر مساعدات روسيا وإيران من الأغذية بهاتين المدينتين دون غيرهما، وهي مفارقة تبعث على السخرية، حتى أن الأمم المتحدة خصصت مبلغ نصف مليار دولار هذا العام لمساعدة نظام الأسد إنسانياً، في الوقت الذي يعرف الناس في سوريا مصير تلك المساعدات ووجهتها.
لا يعجز نظام بشار الأسد عن منح موت للسوريين بكافة الطرق والوسائل، فهو بارع بهذا الأمر جداً، ولن تستطيع مساعي أميركا والغرب بتخليصه من السلاح الكيماوي عن منعه في إبتداع طرق أخرى للموت، فيما يعرف حلفاؤه (روسيا وإيران وحزب الله)، أن إستبسالهم في الدفاع عن إستمرار هذا النظام وبقائه، ما هي إلا دعوة للموت كي يبقى مقيما بين ربوع السوريين.