في زحمة الأحداث المأساوية والخطيرة التي تمر بها المنطقة، ومعاناة شعوبها، والتي تلاقي لا مبالاة المجتمع الدولي، نطالع أحيانا خبرا قد يبدو بعيدا عن بعض أسباب مآسينا، ومنها العقليات المريضة التي تتاجر بالدين والمذهب. وقد جلب نظري أمس خبر الفتاة الكويتية التي بكت خلال برنامج شيخ دين كويتي لأن هرها قد ضاع. الشيخ الفاضل ذهل لسبب وجيعة الفتاة، فكال لها النصيحة التالية، وهي أن عليها أن تبكي على ترك الصلاة وليس على ضياع هر!
لا نعرف كيف يفسر لنا فضيلة الشيخ العلاقة بين الأمرين، ولعله من الذين يؤمنون بأن العلاقة الحميمة بين إنسان وحيوان إثم ومن المحرمات. ولولا ذلك، لنصحها بالصلاة للتخفيف من معاناتها وليس لردعها عن حب حيوان صديق، عاش معها سنوات وكأنها اقترفت إثما.
وقفتي عند هذا الخبر، الذي قد يبدو عاديا للبعض، هو أن من مصائب العرب والمسلمين الفتاوى والنصائح المعوجة التي يطالعنا بها من وقت لآخر رجال الدين، وانكبابهم على الحلال والحرام، وفهمهم للدين كمجرد أداء صلاة وصيام. ولعل هؤلاء لا يجهلون أن quot;الجهاديينquot; وكل المتطرفين الدينيين يؤدون الصلاة بانتظام ويصومون وهم يقتلون الأبرياء بلا رحمة وعشوائيا، أو على اختلاف المذهب والدين. وإن الكثيرين ممن يؤدون الفرائض يمارسون النفاق والكذب والغش والغدر. وإن بشار الأسد يؤم المصلين في الجامع وهو يبيد مواطنيه والأطفال بمختلف الأسلحة الفتاكة وبالسلاح المحرم، وببيدهم تدريجيا، وبعد عذاب رهيب، بالحصار والتجويع، وذلك أمام أنظار العالم الصامت، وبمشاركة بوتين وخامنئي ونصر الله والمالكي، وبعدم اكتراث أوباما ومجلس الأمن.
ليس هذا وحسب؛ فالشيخ الفاضل يجهل صفحات مشرقة من تراثنا العربي- الإسلامي عن العلاقة بين الإنسان والحيوان. فالرسول الكريم كان يعطف عطفا خاصا على القط. وثمة في كتب التراث [والكتب الأجنبية أيضا] قصص عن هذا العطف والدعوة إليه. ومنها أن هرة حبلى كانت نائمة على طرف من ردائه، فحان وقت الصلاة، وبدلا من إزعاج الهرة، قطع من ردائه المكان الذي كانت تنام عليه لكيلا يزعجها. وقيل له مرة إن امرأة خاطئة رأت في البراري كلبا عطشان أمام بركة لا يستطيع الوصول لمائها، فنزعت خفها وسقته به. فقال الرسول الكريم quot; لقد غفر الله لها به.quot; وهذا وارد في كتب التراث المقررة والمعتمدة. ويروي الدميري في كتابه quot; الحيوان الكبيرquot; أن الفقيه الصالح [الشبلي] عندما توفي، رآه زميل له في المنام، فسأله عن حاله، فأجاب بالتالي: قال إنه وقف أمام الله، فسأله quot;أتعرف بماذا غفرت لك؟quot;. فكان الجواب: quot; بصلاتي وصومي.quot; فرد الله، quot;كلا.quot; quot;إذن بحجي كل عام وزكاتيquot;.. والجواب quot;كلا.quot; ولما سأل عن سبب الغفران له ، كان الجواب إنه بسبب رحمته بهرة صغيرة ذات ليلة وهو يسير في حارة ببغداد والثلج ينهمر والبرد قارص. فرأى الشبلي هرة صغيرة تموء وتتمسح بالجدران لكي تدفأ، فأخذها الشيخ للبيت تحت فروته. quot; فبرحمتك بتلك الهرة غفرت لكquot;، قال الله . طبعا هذا مجرد قصة من التراث ولكن لها دلالاتها العميقة، الجديرة بأن يستوعبها الشيخ الكويتي وأمثاله. ويفترض بالمثل والقيم الروحية أن تكون إنسانية، ومنها العطف على الحيوان، إذ هي ليست مجرد فرائض يمكن أن يؤديها حتى مجرم سفاح وهو يقتل بلا حساب ورادع، أو طائفي مفرق للصفوف يقتل حسب جواب الضحية عن عدد ركع الصلاة عند الشيعي وعند السني. ويؤديها الكثيرون من ناهبي أموال العباد والبلاد. ومنهم من يحجون كل عام على حساب الدولة والناس جياع، كما يجري في العراق. إن يوما من الحكم بعدالة وديمقراطية وبلا تمييز بين المواطنين لهو الذي يحسب للحاكم وليس صيامه وصلاته وعدد مرات حجه، إن كان ظالما، وطائفيا، ويفتك حتى باللاجئين العزل.
القتلة الظلاميون، كطالبان والقاعدة ومليشيات فيلق القدس والخزعلي والبطاط وبدر ويوكوحرام وquot; شباب الصومالquot; وquot;دولة الشام والعراقquot; وغيرهم، يؤدون جميعهم الفروض، وأيديهم ملطخة بدماء الأبرياء. والعطف على هرة مسكينة أنبل وأشرف من التقوى المرائية للطغاة والسائرين معهم والمطبلين لهم، وهو أسمى من كل متاجرة ومزايدة بالدين والمذهب والتمييز بين البشر على أساسهما.