ينشد بدر شاكر السياب في قصيدته أنشودة المطر..... وكلَّ عام ndash; حين يعشب الثرى ndash; نجوعْ... ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ... مطر... مطر... مطر...ربما هي أكثر من قصيدة، بل قل هي نبوءة تنبأ بها شاعر العراق مرهف الحس الذي قتله الجوع والمرض والإهمال، وكأنه بمصيره المأساوي يمثل جيل من العراقيين لم ينقرض بعد، نعم أنه جيل الفقراء الذي لم ينقطع أبدا ً منذ الأزل، حتى قبل أن يكتب السياب قصيدته فهو يحاكي هذا الجيل بقصيدته، بالرغم من هطول المطر وفيضان الأنهر وانفجار ينابيع النفط الذي صار أداة للتجويع. أضف إلى جيل الفقراء الذي تنبأ له السياب بالجوع الأبدي كلعنة سيزيف الذي ظل يحمل الصخرة في وجوده الذي صار عبثيا ً جيل الغربة الذي تجاوز شواطئ الخليج حين أنشد هذا الشاعر الكبير قصيدته غريب على الخليج لتتغرب أجيال وتموت على شواطئ المتوسط والأطلسي وسواحل استراليا البعيدة. دعونا من الشعر والشعراء وشاعرنا صاحب النبوءة وهو جرح العراق الذي لم يلتئم ولنتحدث بلغة العلم والعلماء والأرقام والمقاييس العالمية.

لقد ذكرت بعثة الأمم المتحدة (يونامي) بأن هناك ستة ملايين عراقي يعيشون تحت خط الفقر، أي أنهم يقتاتون ويتدبرون أيامهم ومعيشتهم بأقل من دولارين ونصف في اليوم الواحد للفرد الواحد مما يجعل العراق من البلدان التي تحوي الملايين من الفقراء. يقول علي بن أبي طالب، لو كان الفقر رجلا ً لقتلته، نعم، فالفقر يصطحب معه الجهل والمرض وسوء الحال. فأينما حل الفقر حلت المصائب التي لاتنتهي وبدأت معها المأسي والدموع وقلة الحيلة، والفقر اجتماعيا يجعل من المجتمع هشا ً بإنتشار الإرهاب والجريمة المنظمة وتفشي الأمراض التي تهتك بالاطفال ضحايا الفقر بلا منازع. ولو سألت الحكومة عن تلك الأرقام والتقارير فستقول أن تلك الأرقام غير دقيقة وطريقة حساب البعثة غير علمي حيث أن رد الحكومة عن هكذا تقارير لايختلف كثيرا ً عن فضائيتها التي تصور العراق على أنه بلد ينعم بالأمن والأمان في نفس الوقت الذي تفتك مفخخات المجرمين القتلة بشبابنا حين تنقل حفلا ً موسيقيا ً بشكل مباشر بدل التركيز على قتل وجرح المئات في تفجير عزاء مدينة الصدر، أي تجعل كل شيئ حسب المثل العراقي (الهور مرك والزور خواشيك) أي تجعل من المستنقع بركة من مرق والقصب ملاعق وتفضلوا للطعام من كثر الخير.

أن الفقر في العراق ليس وليد الظروف الحالية وإهمال الحكومات المتعاقبة التي حكمت بعد السقوط 2003، فهو حالة متوارثة من الظروف المختلفة ومن إهمال الحكومات التي سبقت ذلك التاريخ حين جعلت موارد النفط سببا ً ليكون العراق بلدا ً عسكريا ً يحتاج الكثير من الأموال لتسليح نفسه بعد أن خلق له أصحاب الشأن أعداء حقيقيين ووهميين يستعد لهم ويحاربهم. فالفقراء في العراق وعلى طول الزمن كانت أعينهم على ماتجود به الحكومات من خبز مقابل الولاء السياسي. ولكن، وبعد سقوط النظام السابق، حدث تحول خطير في وضع الفقراء حين أعلن الحاكم بريمر أن العراق سيتبع نظام اقتصاد السوق الحر في بادرة غريبة من نوعها في بلد ليست فيه بنية تحتية للتعامل مع هكذا اقتصاد. فتطبيق تلك المنظومة الاقتصادية بحاجة لتحول تدريجي نحو هذا النظام المفترض بتغيير البنية القانونية والإدارية والمصرفية وفهم معنى فكرة اقتصاد السوق من الناحية الثقافية والسياسية وتأثيرها على المجتمع المغلق الذي لم تكن حدوده مفتوحة بتلك السعة قبل السقوط. فمن نتائج تلك الخطوة هي توسيع الفجوة بين الفقراء والأغنياء الذين استولوا على مردودات النفط الهائلة من دون أي إعتبار لطبقة الفقراء التي هي بحاجة للحماية من مؤسسات الدولة في تلك النظم الاقتصادية والتي جعلت العراق محطة إختبار لأفكار الليبراليين الجدد الذين وضعوا الأخلاق الإنسانية على رفوف في منازلهم وتسلحوا بأخلاق السوق التي لاترحم. إذن، نحن أمام نوع جديد من الفقر لم نألفه من قبل وهو نتاج أفكار بنيوية فوقية لها جذور ثقافية تتعلق برؤية أيدلوجية لم نعرفها من قبل حيث لم يؤسس لها أحد قبل ذلك التاريخ. فالفقر في العراق صار ليس نتيجة لظروف موضوعية لها جذور تاريخية فحسب بل كنتيجة لصراعات فكرية بين دول كبرى كل تجره لطبيعة اقتصادية مختلفة.

ولكن، يبقى هناك سبب آخر لإستمرار حالة الفقر بل تزايده في العراق، أضافة لفكرة اقتصاد السوق، لأن حسبة بسيطة بين دخل العراق من المليارات خلال عشر سنوات مع تزايد حالة الفقر يجعلنا نضع ألف علامة استفهام على كيفية تسرب تلك الموارد الضخمة لجيوب البعض. فالسرقة والفساد هما من الأسباب الرئيسية في إستمرار حالة الفقر في العراق، والفساد اصطلاحا ً لايعني سرقة أموال الدولة فحسب كما يعتقد البعض بل هو سوء إدارة الأموال أيضا ً والذي يبدد تلك الأموال في غير مواردها. لانتحدث هنا عن وزير فاسد ومسؤول مرتش وحسب، بل هي منظومة متكاملة من الفساد مرتبطة بالمنتفعين المرتبطين بأحزاب سياسية تقتات على ذلك الفساد من خلال لوبيات منتفعة من مشاريع عملاقة ترتبط بشخصيات لها وزنها في الطبقة السياسية مرتبطين بمنظومة من المتدينين الذين يبررون الفقر من خلال إشاعة فكر القبول بالقضاء والقد وأن الفقراء هم أحباب الله وأن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين عاما ً كأحاديث نبوية. نعم، ويرتبط هؤلاء السياسيون ولوبيات المصالح مع منظومة إعلامية بقنوات فضائية وصحف محلية وإقليمية وترتبط أيضا ً بشبكة من الإرهابيين لحمايتهم ولتأجيج الوضع السياسي ليبقى الحال على ماهو عليه وهكذا. فالإرهاب والفساد هما وجهان لعملة واحدة.

أما أحباب الله فسيبقون أحبابه مادام اقتصاد السوق الحر هو السائد بلا حماية من مؤسسات الدولة للفقير ولأصحاب الدخل المحدود بلا أي تمييز إيجابي ومادام الفساد يوجد من يحميه ولايوجد من يحارب المفسدين ويكشفهم لأنهم يمثلون مصالح سياسية مرتبطة بجهات نافذة في الدولة، وأن الفقراء سيدخلون قبل الأغنياء الجنة بأربعين عاما ً مادام هناك من شيوخ الدين ممن يرتبطون بالأحزاب ومن لف لفها ومادام هناك إعلام تموله جهات غير معروفة المصادر ومادام هناك إرهاب يعيش على ذلك الفساد وسيبقى العراق فيه جوع.


[email protected]