إن العودة اليوم إلى خطاب الملك محمد السادس في افتتاح الدورة التشريعية الجديدة في الحادي عشر من أكتوبر الماضي والتوقف فيه بالأساس على قضية الوحدة الترابية للمغرب ومنهجية التعامل معها على مختلف المستويات كفيلة بتوضيح المناخ العام الحالي للتوتر المغربي الجزائري حول هذه القضية بالذات.

وفس الواقع فإن ذلك الخطاب قوي بهدوئه وإصراره على روح المبادرة والمبادرة الحرة في التعاطي مع قضية الوحدة الترابية للمغرب. فرغم أنه على مستوى ترتيب الخطاب احتلت قضية الصحراء المرتبة الثالثة بعد ما هو مطروح على المؤسسة البرلمانية من مهام تشريعية وخاصة في تدقيق وضع المعارضة البرلمانية، وبعد المرافعة ضد الاختلالات في حكامة الشأن الجهوي والمحلي حيث ضرب الملك مثلا بالدار البيضاء مقارنة بأوضاع فاس ومراكش فإن احتلال القضية الوطنية هذه المرتبة لا يمكن ان يخفي كونها تحتل من حيث المضمون أولوية الأولويات وذلك انطلاقا من الحيثيات والقرائن التالية:
أولا، ارتباط العمل البرلماني بأجندة واضحة المعالم ومحددة المداخل والمخارج. ثانيا، اندراج مسألة تدبير الشأن المحلي والجهوي بخارطة طريق ينبغي اعتمادها مستقبلا لتطوير العمل على هذا المستوى في حين ان المسألة الوطنية والمبادرة التي تتطلبها فورية وشاملة وهجومية للخروج من دوائر ردود الأفعال على خطط الخصوم والأعداء لحشرهم في زاوية ردود الأفعال التي حاولوا أن يفرضوها على المغرب في اغلب مراحل النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي.

وإن الدعوة إلى استحضار تجربة وروح المسيرة الخضراء تكشف طبيعة وحقيقة البعد الفعلي للهجوم السياسي السلمي الذي ينبغي أن يكون أساسا في تكتيك واستراتيجية التعامل مع قضية الوحدة الترابية للمغرب لأن ثبات خصوم الوحدة الترابية على مواقفهم المعادية وتنوع نشاطهم السياسي والدبلوماسي لمناهضة المغرب يفرض على البلاد التجنيد الدائم لإحباط مناوراتهم وتعزيز الموقف السياسي والدبلوماسي المغربي في مختلف المحافل الإقليمية والدولية.

ويمكن اعتبار خطاب الملك نقطة الانطلاق الرئيسة لهذا الهجوم السياسي لتجنبه الحديث عن أي موضوع يمكن ان يوحي أنهمن الوارد تقديم أي تنازلات في هذه القضية الاستراتيجية بالنسبة لحاضر المغرب ومستقبله القريب والبعيد.

وفي هذا السياق فإن عدم الحديث عن مقترح الحكم الذاتي في هذا الخطاب يعني، أو يمكن أن يعني، أن المغرب عندما قدم هذا الاقتراح كان ينتظر من الجزائر التعامل بإيجابية معه كما كان ينتظر من المجتمع الدولي التعامل بجدية مع وصفه للمقترح المغربي بالجدي وترجمة ذلك لن تكون فعلية، إلا إذا لوح بإمكانية تحميل الجزائر مسؤولية التعامل التناوري مع خطة الحكم الذاتي الموسع، وليس اتخاذ مواقف توحي بالقبول أو التلاقي،عند نقطة ما، مع مواقف الجزائر التي لا تريد بديلا عن انفصال الصحراء عن المغرب، وإقامة كيان قزمي يدور في فلكها،ويأتمر بأوامر قياداتها العسكرية تحت يافطة تقرير المصير الزائفة، لأن هذا المبدأ قد طرح أصلا لتمكين الشعوب من تحديد مصيرها بنفسها وليس لتمزيقها وفقا لإرادة القوى الهيمنية الإقليمية أو الدولية.

وقد حرص الملك محمد السادس على إبراز أن قضية الوحدة الترابية ليست قضية ملك البلاد فحسب وليست قضية مؤسسات فقط وإنما هي قضية شعب بكامله وبمختلف مكوناته وتياراته،لذلك فإن الدفاع عنها مسؤولية الجميع دونما استثناء ما دامت قضية إجماع وطني شامل ولا تخضع لمقولات الاختلافات والتباينات السياسية ولا لأي استراتيجية سياسوية عقيمة.وانطلاقا من هذه الحقيقة فإنه ليس لأي كان أن ينتظر إشارة من أي جهة كانت كي يضطلع بمسؤولية الدفاع عن الوحدة الترابية للبلاد بل ليس حصيفا من الوجهة السياسية والاستراتيجية انتظار هجوم الخصوم والأعداء لدخول حلبة الدفاع وصد العدوان بل المطلوب والمنطقي أن يتم الإبداع في بلورة أساليب الهجوم السياسي والدبلوماسي والدفع بالخصوم والأعداء إلى اعتماد أساليب الدفاع لأن حججهم واهية في جوهرها وهي مجرد ذرائع لاستمرار النزاع والإيحاء بطابعه الدولي في حين أنه نزاع مغربي جزائري عند المنطلق وفي مختلف محطات مساره، وحله بالتالي لن يكون إلا ثنائيا أما حديث الجزائر عن رغبتها في بناء المغرب الكبير مع الإصرار على إدامة هذا الصراع فهو حديث متناقض ولا يقوم على أي أساس واقعي غير الرغبة في دق إسفين الفرقة في منطقة المغرب الكبير من خلال مناوأة الشعب المغربي في سعيهإلى تكريس وحدته الترابية جنوبا والتفرغ لتحديات التنمية واتخاذ الخطوات اللازمة لاستكمال وحدته شمالا من خلال العمل على استرجاع سبتة ومليلية ومختلف الجزر المحتلة من قبل الإسبان.

ويبدو أن عدم الإشارة الى جبهة البوليساريو الانفصاليةوالحديث عن مخاطر محدقة بالوحدة الترابية يعني أن معركة الحكم الذاتي الموسع قد أشرفت على الانتهاء، وبالتالي فمن أوجب واجبات المغرب التحضير لما بعده والذي قد يتخذ شكل العودة إلى مربع الانطلاق في نزاع الصحراء بكل ما يمكن أن ينطوي عليه من سخونة الاصطدام مع خصوم الوحدة الترابية وأعداء الوطن تحت عناوين متباينة بين الدعوة إلى إعادة الحياة الى المشروع الانفصالي من خلال المزاعم المرتبطة بمفهوم تقرير المصير أو استئناف الطابع المسلح للنزاع أو حتى من خلال الصراع المفتوح بين الرباط والجزائر.

وبالفعل فلم تمض إلا أيام معدودات عن إلقاء هذا الخطاب حتى عادت الجزائر إلى ممارساتها القديمة وحملاتها المغرضة على المغرب وعلى قضاياه الوطنية المصيرية الأمر الذي أدى إلى استدعاء المغرب لسفيره في الجزائر للتشاور ردا على الحملةالسياسية والاعلامية التي تشنها الجزائر في الآونة الأخيرة على الرباط على مختلف المستويات وبمختلف الوسائل بلغت درجة فبركة الإشاعات ونشرها على نطاق واسع حول صحة الملك محمد السادس واختلاق الأخبار حول اجتماعات مزعومة للأسرة المالكة تحسبا لكل الطوارئ. وإذا كان مصدر مقرب من القصر الملكي بالرباط قد نفى بشكل قاطع هذه الإشاعات التي أكد أنها عارية عن الصحة ويكذبها واقع الأنشطة المكثفة للملك في الداخل والخارج لرفع مستوى تنمية البلاد من خلال المشاريع وورشات العمل الكبرى التي يشرف عليها مباشرة ولتكريس موقع المغرب على الساحات الاقليمية والدولية، فإن الجزائر على ما يبدو قد قررت تدشين حملة سياسية وإعلاميةضد المغرب ومصالحه في مختلف المجالات وفي مقدمتها قضية الصحراء المغربية.

ومن الواضح أن الدولة الجارة لا تترك أي فرصة تسنح لها إلا اغتنمتها في الهجوم على المغرب وفي قضية الصحراء بالذات التي يعتبرها محور القضايا منذ عقود طويلة قدم فيها الشعب المغربي تضحيات جسيمة في حياة أبنائه الذين روت دماؤهم الطاهرة أراضي الصحراء، وفي قوت مواطنيه الذين قدموا الغالي والنفيس في سبيل تنمية أقاليمه الجنوبية منذ استرجاعها من الاستعمار الإسباني.
وأحدث هجوم في هذا المجال تولاه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بنفسه في خطابه الأخير الذي ألقي نيابة عنه في أبوجا عندما حاول إعادة الحياة إلى مشروع توسيع صلاحيات المنيرسو لتشمل مراقبة حقوق الإنسان في الأقاليم المغربية الجنوبية متناسيا أن هذا المشروع لن تكتب له الحياة مرة أخرى،بعدما انكشفت غاياته أمام كل القوى الإقليمية والدولية المهتمة بتطورات النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية. ومما لا شك فيه أن هذا المشروع الذي تولى رعايته كريستوفر روس المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى المنطقة قد تم تشييعه إلى مثواه الأخير عندما وقف المغرب وقفته التاريخية في وجهه حيث لم ينفعه تدخل الإدارة الأمريكية لدعمه وتمريره في مجلس الأمن الدولي

ومن غرائب الأمور ان الجزائر التي تسوغ لنفسها القيام بالهجوم تلو الهجوم على المغرب مصرة على محاولة حرمان المغرب من حقه المشروع في الدفاع عن نفسه، مستكثرة عليه شجبه لموقف الرئيس بوتفليقة المعادي لسيادة المغرب علىأقاليمه الجنوبية متذرعة بأن الرئيس لم يقم إلا بالتذكير بمواقف الجزائر من قضية الصحراء، وكأن أقدمية هذه المواقف تضفي عليها الشرعية والمشروعية، وما على المغرب إلا الخضوع لأمر واقع المواقف الجزائرية المعادية. ومن المؤسف حقا أن مختلف الأوساط القيادية السياسية والدبلوماسية الجزائرية لا تتذكر أن المغرب بلد شقيق إلا عندما تحاول تمرير مواقف معادية للمغرب سواء في قضية الصحراء المغربية أو في قضية الحدود المغلقة بين البلدين.

وبالمناسبة فإن حزب الاستقلال لم يقم بدوره إلا بالتذكير بمواقفه التاريخية من استكمال الوحدة الترابية للمغرب. فلماذا اعتبار موقفه غير مقبول ويكشف عن نوايا توسعية، وهو لم يدعإلا إلى ترسيم الحدود بين البلدين في حين أن الجزائر مصرة على تمزيق وحدة المغرب الترابية والوطنية وإنشاء كيان مسخ في المنطقة، وتزعم رغم كل ذلك انها تحافظ على سياسة ضبط النفس وهي تشن هجومها على المغرب على مستوى الرئاسة ذاتها.