من مفكرة سفير عربي في اليابان

تذكرت عزيزي القارئ وأنا أقوم بزيارة منطقة في أطراف مدينة طوكيو، تسمى بمنطقة quot;هاكونهquot;، لتكون حافزا لكتابة مقال اليوم. حيث توجد بهذه المنطقة بحيرة جميلة، وتحيط بها سلسلة من الجبال الشاهقة، وتضم مناظر طبيعية خلابة، وتحيط بها عدة فيلات متميزة، ترجع تاريخها لقرون مضت، وتملكها سفارات دول أوربية عديدة. وقد حفز فضولي مشاهدة هذه الفيلات الفاخرة، وتساءلت عن سبب اختيار السفارات الأوربية لهذه المنطقة لبناء فيلات بهذه الفخامة، ودهشت حينما عرفت السبب، وليكون جوهر مقالنا اليوم. فقد تبين لي بأنه في القرن الثامن عشر كانت تستغرق مدة السفر من اليابان إلى أوروبا شهور طويلة، ولذلك قررت الدول الأوربية توفير فيلات لقضاء دبلوماسيها إجازاتهم الصيفية في هذه المنطقة المتميزة بجمالها الطبيعي، ومناخها البارد في الصيف.
تصور عزيزي القارئ كيف كانت صعوبة العمل الدبلوماسي قبل عصر التطور التكنولوجي. فقد غيرت تكنولوجية المواصلات والاتصالات المتقدمة العالم، من كوكب كرة أرضية شاسعة الأطراف، إلى قرية عولمة صغيرة. فيحتاج السفير اليوم ما يقل عن نصف يوم ليسافر من اليابان إلى أية دولة أوروبية، بل يستطيع أن يكمل جميع اتصالاته اليومية من خلال جهاز صغير يسمي quot;بالأي فونquot;، وبطرق متعددة: من المخاطبة السمعية، إلي الكتابة الإلكترونية، وحتى صور الفيديو المرئية. وطبعا ترافق عالم الاتصالات والمواصلات الجديد بتحديات عولمة جديدة، تحتاج لنظرة ثاقبة، وتفكير عميق، ومعالجة أكثر صبرا، وعقلانية، وشمولية.
وقد عبر البروفيسور كيشور محبوباني، الدبلوماسي المخضرم، ووزير خارجية سنغافورة السابق، عن تغيرات العولمة الجديدة وتحدياتها المعقدة بقوله: quot;كانت تشبه الأمم سابقا أسطول صغير تجمع مجموعة تزيد عن المائة قارب، تحتاج لأنظمة تمنع التصادم بينها، ولتساعد على تعاونها المشترك في المحيطات الشاسعة. أما اليوم، فيعيش سبعة مليار من البشر على سفينة واحدة، وضمن 193 كبينة متنوعة. ولكن المعضلة التي تواجهها هذه الأمم هي أن هناك 193 قبطان على هذه السفينة، ويعتقد كل واحد منهم بأنه هو المسئول الوحيد عن قيادة الكبينة التي تقطنه أمته، ولكن مع الأسف ليس هناك قبطان يتحمل المسئولية الشاملة لتوجيه هذه السفينة في محيطات العولمة المعقدة والشائكة.quot;
وقد برزت في القرون الماضية قيادات لعبت دورها في تنظيم تحرك quot;قواربquot; الأمم. فقد استلمت قيادة العالم في القرن السابع عشر أوربا، لتنتقل هذه القيادة في القرن التاسع عشر إلى الإمبراطورية البريطانية، وفي القرن العشرين للولايات المتحدة. وقد استفاد العالم من ماسي الحربين العالميتين الأولي والثانية لخلق تجربة عالمية جديدة لقيادة العالم الذي نعيشه، فقد استطاعت الولايات المتحدة في أن تعمل مع دول متقدمة ثرية، ومن خلال مجموعات دولية، وبتسميات مختلفة، منها مجموعة السبعة، ومجموعة الثمانية، ومجموعة العشرين التي برزت بعد أزمة العولمة الاقتصادية في عام 2008. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: من هي الدولة التي ستصعد لاستلام قيادة العالم في القرن الحادي والعشرين؟ ومع أية مجموعة جديدة من الدول ستعمل لقيادة عالم العولمة الجديد، لتلعب دورا ايجابيا في معالجة تحدياته المعقدة؟ وما هو النظام الدولي الجديد الذي سينتج من هذه الارهاصات المعقدة؟
لقد انتشر كتاب جديد في مكتبات العاصمة طوكيو، وبعنوان: كل أمة لنفسها، الرابحون والخاسرون في عالم مجموعة الصفر. وقد كتبه البروفيسور إيان بريمر، وهو عالم سياسي أمريكي، متخصص في السياسة الخارجية الأمريكية، وهو رئيس ومؤسس للمجموعة الأوربية الأسيوية، وأستاذ أبحاث العولمة بجامعة نيويورك. وقد بدأ بريمر مقدمة كتابه بالقول: quot;مجموعة الصفر، النظام العالمي الذي ليس فيه دولة أو مجموعة من الحلفاء مؤهلة لتحديات قيادة العولمة.quot; ، وأكمل يقول: quot;لأول مرة خلال السبعة العقود الماضية نعيش عالم يفتقر لقيادة دولية. ففي الولايات المتحدة، خلقت الصراعات الحزبية، وتصاعد الديون الفيدرالية، قلق بأن أجمل الأيام الأمريكية قد قاربت على الإنتهاء، بينما في الجزء الأطلنطي من العالم، أفقدت أزمة الديون الثقة في أوروبا ومؤسساتها ومستقبلها. وفي اليابان، ثبت بأن الشفاء من عواقب الزلازل والسونامي والذوبان النووي، أسهل من معالجة الوعكة السياسية والاقتصادية التي عاشتها اليابان في العقدين الماضيين.quot;
ويستمر الكاتب في القول: quot;لقد شكلت دول الثروة والقوة في الجيل الماضي، ومعهم كندا مجموعة السبعة، وهي مجموعة ديمقراطيات السوق الحرة، التي قوت الاقتصاد العالمي، بينما تصارع نفس هذه المجموعة اليوم للوقوف على قدميها. وقد نصح المتفائلون، الذين يعتقدون بصعود الأكثرية، بأن لا يقلق أحد، فمع انحدار القوى الغربية إلى قاع القرون الوسطى، ستبرز مجموعة صاعدة من الدول، لتخلق مصعد يرفع جميع الأمم من جديد. وقد بين التقرير الذي كثر الحديث عنه، والذي صدر في نوفمبر عام 2010، من ستاندرد شارترد بنك البريطاني، بان الاقتصاد العالمي قد دخل دورة فائقة جديدة، مدفوعة بالتصنيع والتعمير في السوق الصاعدة وبتجارة العولمة. فقد أنمت التكنولوجية الحديثة، والصعود الأمريكي، الاقتصاد العالمي بين عام 1870 وحتى بدايات الحرب العالمية الأولى، واستمر هذا النمو الاقتصادي منذ الحرب العالمية الثانية وحتى السبعينيات بفضل القيادة الأمريكية، ومع مساعدة بناء أوربا من جديد، وبتوفر الطاقة الاحفورية ومع زيادة الصادرات الأسيوية الرخيصة. وسيمكننا في المستقبل أن نعتمد على ديناميكية السوق في الصين والهند والبرازيل وتركيا وباقي الدول الصاعدة لتغذية النمو الاقتصادي العالمي، بل ولعدة سنوات قادمة. وقد أخبرنا، كأوروبيين وأمريكيين، بأن لا نقلق، لأن الدول الأخرى ستقوم بدورها في رفع الاقتصاد العالمي من أزمة تباطئه.quot;
ولم يكن التعاون العالمي أكثر أهمية في التاريخ من اليوم، في عالم يعاني من تحديات كبيرة وكثيرة، بدءا من ضعف استقرار الاقتصاد العولمي، والتغيرات المناخية، وحتى الارهاب، وتراجع الاستقرار الغذائي والمائي. فيحتاج تعاون اليوم لقيادة عولمة، لأن هذه القيادات تتمتع بقدرتها على تنسيق تجاوب دولي، للتحديات الدولية المتداخلة والمعقدة، لكونها تملك الثراء والقوة، ولتدفع بالحكومات لمعالجة لن تستطيع القيام به لوحدها، فهي تستطيع دفع شيكات لا يستطيع الاخرين تحملها، وتقدم خدمات لا يستطيع أحد غيرها دفع ثمنها، بل وتضع جدول اعمال لعالم العولمة المتشابك والمعقد. ولا تريد، ولن تستطيع، الولايات المتحدة تحمل هذه المسئوليات، وفي نفس الوقت ليست مستعدة الدول الصاعدة حتى الان تحمل هذه المسئوليات، لأن حكوماتها مشغولة في التركيز على المراحل الحرجة القادمة في نموها الاقتصادي.
كما يفتقر العالم لقيادات مؤسسات العولمة الدولية. فقد اجتمعت أكثر دول العالم قوة وثراء بعد الأزمة المالية في نوفمبر عام 2008، وتحت راية مجموعة جديدة سميت بالمجموعة العشرين في واشنطن. ومع أن هذا المنتدى ساعد من تخفيف دمار الأزمة المالية، ولكن أختفى الشعور بشمولية الأزمة بسرعة، كما تبخر التعاون، ومنذ ذلك الوقت، لم تنتج مجموعة العشرين أي شيء يذكر. كما لن تقدم المؤسسات الدولية، كمجلس الأمن، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، أية قيادة عولمة حقيقية، لأنها لم تعد تعكس التوازن الحقيقي للقوى السياسية والاقتصادية العالمية. ويتساءل الكاتب: quot;فإذا لم يتعاون الغرب مع بقية المنظمات الدولية لقيادة العالم، فمن سيقود العالم؟quot; ويرد الكاتب بقوله: quot;ليس هناك احدا ليقود العالم، فلا مجموعة السبع التي لعبت دورها سابقا، ولا مجموعة العشرين الغير فاعلة، بل سيدخل العالم في زمن مجموعة الصفر.quot;
ويعتقد الكتاب بأن العالم سيمر بمرحلة انتقال مضطربة، ومعرض دائما لأزمات صعبة، والتي قد تبرز من اتجاهات غير متوقعة. وتبين الحقائق العلمية بأن الطبيعة تكره الفراغ، فلن يستمر عالم مجموعة الصفر لفترة طويلة. ولكن خلال العقد القادم، ولربما لفترة أطول، سيضعف عالم اللاقيادات قدرتنا على المحافظة على السلام، ويعطل زيادة فرص التنمية الاقتصادية، ويشل جهودنا في معالجة التغيرات المناخية وتغذية سكان العالم المتزايدين. وستشعر بهذه التأثيرات جميع دول العالم وحتى في عالم الانترنت. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل سيكون مواطنو الشرق الأوسط مستعدون لهذه التغيرات القادمة؟ وكيف ستتعامل حكوماتهم مع ارهاصات هذه التجربة؟ وكيف ستطور المنطقة تحالفاتها المستقبلية؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان