التاريخ هو الأحداث التي حصلت عبر الزمان أما التأريخ فهو عملية توثيقها وتسجيلها، وهي العملية التي قد تخون الأمانة بشكل مقصود أو غير مقصود. وعند استقراء الأحداث من مصادر مختلفة نجد سردا مختلفا بحسب المصدر وهذا ما بنطبق أشد الانطباق على واقعنا العربي الحالي حيث نجد روايات متناقضة لنفس الحدث وكأن المصادر تتحدث عن حدثين مختلفين. والمؤرخ لا يمكن أن يكون محايدا لأنه أسير الإطار الفكري والفلسفي والرؤية الخاصة به والقناعات التي يحملها.

يبرز الدكتور سمير بوزويتة في كتابه quot;مكر الصورةquot; الشخصية المغربية في عيون المؤرخين الفرنسيين على أنها متوحشة ولكنها طيبة القلب وكان المؤرخون الفرنسيون يهدفون إلى غسل أدمغة المغاربة وتغيير الوعي الجمعي بهدف إقناعهم بتفوق الحضارة الفرنسية من الجوانب الاقتصادية والثقافية والعسكرية والاستراتيجية وبالتالي يسهل تذويب الشخصية المغربية ودفعها على التعاون من أجل تحقيق الهدف الفرنسي لإقامة امبراطورية في شمال افريقيا على غرار الإمبراطورية الرومانية. وقد أسبغت الكتابات الفرنسية على الشخصية المغربية صفة الجمود والسلبية الناجمة عن الديانة التي تشجع على التفكير الغيبي والانقياد الأعمى والاقتناع بالقدرية دون تدخل فعال في تسيير الأمور وحوكمتها بشكل علمي وموضوعي. وفي المقابل أبرزت الصورة المناقضة للحضارة الغربية التي تتسم بالنشاط والحركة الدؤوبة والسعي المستمر لرفع المستوى والتطور من خلال الابتكارات والعلوم، ولم تجد تلك الكتابات آنذاك من يتصدى لها من الكتاب العرب لتغيير الصورة النمطية لعدة عوامل أهمها افتقارهم إلى الدليل المادي.

يرى كيث جنكنز (1991) في كتابه quot;إعادة النظر في التاريخquot; أن المؤرخ رجل وظيفته تسجيل التاريخ وهو يقوم بعمله وإذا اجتهد كان أداؤه جيدا أو متوسطا ولكن على جميع الأحوال لا يمكن أن يكون محايدا بالنظر إلى أنه لا يوجد مؤرخ ليس مقيدا بمرجعيته الثقافية ومنطلقاته الفكرية وقناعاته الفلسفية وأواصره العقائدية أي لا يمكن أن ينطلق من خواء كامل وهذا ينعكس على تقييمه للأحداث بل ويسعى إلى إبراز الأحداث التي تصب في رؤاه ويجتزئ تلك التي تتناقض معها. وهذا جلي في وسائل الإعلام الحديثة التي تسلط الضوء على ما يخدم رؤيتها وتهمل ما يعرض الضفة الأخرى من النهر. فإذا تنقل الرائي بين القنوات يخيل له أنها تتكلم عن أشياء مختلفة. ولشد ما ينطبق هذا على أحداث مصر التي قدمت للمشاهد بطريقة عجيبة بحيث تاه المشاهد ولم يعد يعرف أين الحقيقة. وفي كتابة التاريخ، يحاول المؤرخ أن يكون موضوعيا وعلميا ويوثق ما يذكره في هامش في أسفل الصفحة يذكر فيه اسم المصدر وكأن هذا المصدر محصن من الهوى والميل. إنه هامش صامت لا يخدم الحق ولا الحقيقة. ويخرج القارئ بنتيجة مفادها أنه لا المؤرخ ولا المؤرخ عنه يتمتعان بمصداقية علمية.

عندما قدم إدوارد سعيد كتابه quot;الاستشراقquot; في عام 1978 لقي صدى واسعا وترجم إلى خمس عشرة لغة تقريبا. وقد ميز إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق بين الشرق والاستشراق، فبينما يدل الشرق على المكان الجغرافي، فإن الاستشراق هو مفهوم الغرب عن الشرق وهي حركة ارتبطت بالاستعمار من منطلق أنه لا بد من فهم تلك البقعة من الأرض لكي تسهل السيطرة عليها، فلا يوجد شيء في الأصل اسمه الاستشراق فالشرق أمر نسبي إذ يمكن أن يكون الغرب شرقا بالنسبة للشرق والعكس صحيح بناء على النقطة التي ينظر منها المشاهد، فالاستشراق إذن هو وجهة النظر الغربية بحكم التسمية. وقد انطلقت حركة الاستشراق بعد عصر التنوير الأوروبي في القرن السادس عشرالذي شهد تحولا فكريا وفلسفيا ونهضة في كافة المجالات دفعت بالغرب إلى مد أنظارها إلى الشرق للهيمنة عليه وخدمة ثورتها الصناعية. ويرى سعيد أن الغرب لا يمكنه دراسة الشرق بتجرد وإن اجتهد أن يكون منهجه إمبريقيا وموضوعيا لأن الغرب متورط في الشرق منذ أيام هومر وشهدت العصور تمددا له في الشرق منذ عهد الإغريق والرومان. والاستشراق كلمة باتت مرتبطة بالهيمنة الغربية والقوالب المعدة مسبقا لسكب هذا الجزء من العالم فيها فهو غارق في الوهم والسحر والاقتتال. ويذكر سعيد في معرض سرده مقولة نابليون إبان حملته على مصر أن مصر حضارة أعمق وأعرق وأسبق من الحضارة الأوروبية وأنه لا بد من فهمها لكي تسهل السيطرة عليها. ففهم الشيء يسهِّل إدارته وتوجيهه. ويخلص سعيد إلى القول أن الاستشراق لم يكن يوما خاليا من التحيز والمصالح السياسية فالشرق بالنسبة للغرب شعوب لا تعرف الحكم الذاتي ولا تخضع إلا للحكم الشمولي والقمعي لذا فإن التغلغل فيها والهيمنة عليها لا ينطلق من الشر بل أن فيه خيرا كثيرا.

وحديثا، جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتكشف عن عملية تزوير كبرى للتاريخ، فبعد هذه الأحداث أصبحت أدبيات السرد والتحليل تحمل دمغة الحقد والكراهية والاتهام المحموم للعرب بالهمجية والعنف ومن تلك الأدبيات ما ذهب إلى تفسير هذا التوجه إلى العنف بأنظمة الحكم الشمولية والقمع الفكري وخنق حرية التعبير مغفلين تماما أن التنظيمات الإسلامية التي تمارس العنف هي في الأصل صنيعة الاستخبارات الأمريكية وقبلها البريطانية. وفي مقابلة مع برجنسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس كاتر، أجريت من قبل لانوفيل أوبزيرفاتور بتاريخ 21 يناير 1998 سئل برجنسكي quot;هل أنتم نادمون على تغذية الأصولية الإسلامية بالمال والتسليح والتدريب؟ فرد قائلا: quot;ما هو الأهم في تاريخ العالم: انهيار الاتحاد السوفيتي أم ظهور طالبان؟quot; وقد نشرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية بتاريخ 23 مارس 2002 أنه quot;إبان الحرب الباردة أنفقت الولايات المتحدة ملايين الدولارات لتزويد مدارس أفغانستان بكتب مدرسية تحض على الجهاد والعنف.quot; فما هي الصورة التي تتناقلها وسائل الإعلام وكتب التاريخ؟ إنها صورة مغايرة تماما للواقع. ويبدو واضحا أن الجهات الأقوى سياسيا وعسكريا تصب الشعوب في قوالب فكرية معينة حسبما يخدم مصالحها.

وفي دراسة عبد الله الوهيبي quot;الاستشراق الجديد: مقدمة في التاريخ والمفهومquot; يشير الباحث إلى أنه طرأ تغير كبير على الاستشراق في القرن الثامن عشر وقد أنشأ المفكر الفرنسي سلفستر دي ساسي (1838م) الجمعية الآسيوية في عام 1821 ثم قدم آرنست رينان أفكاره حول مفاتيح فهم الشعوب وشدد على ضرورة فهم الأحداث في سياقها ووصف المسلمين بالتدني الفكري وعدم القدرة على الابتكار والإبداع نتيجة لديانتهم التي تعزز التفكير الغيبي ورأى أن هناك مبررا قويا لاستخدام القوة لضرب هذه الشعوب وتغيير النمط الفكري لديهم بالقوة. كما كان لنظرية تشارلز داروين (1882) التي فسر فيها اختلاف الشعوب على أساس بيولوجي تشريحي أشد الأثر على المفهوم الغربي العام لشعوب المنطقة وأقر الكثيرون من المفكرين بنظرية التفوق العرقي. وبعد الحرب العالمية الأولى تم احتلال 85% من أراضي العالم الثالث بدعوى تحضيرهم ونشر الثقافة والمعرفة بينهم ونشطت الحركات التبشيرية وعمليات التنصير. لكن الاستشراق بعد الحقبة الاستعمارية نحى منحا جديدا قائما على ضرورة المزج بين دراسة التاريخ الصماء إلى منهج أكثر شمولية يضم علم اللغات وعلم الاجتماع وعلم السكان والاقتصاد والأديان ورأى عدد من علماء اللغات أن الشعوب أسيرة لغاتها وأن اللغة تقولب نمط تفكيرها وليست مجرد أداة للتعبير.

ويتابع الوهيبي بالقول أن دراسة الاستشراق لم تعد كالسابق ففي الولايات المتحدة عمدت الحكومة إلى إنشاء مراكز للأبحاث متخصصة في مختلف المناطق وليس الشرق برمته، فهناك مركز متخصص في بلاد الشام ومركز آخر لشمال أفريقيا ومركز للخيلج وغيرها وهي تنفق بسخاء على هذه المراكز البحثية ومثال ذلك مانفرد هالبيرن أستاذ العلوم السياسية في جامعة بريستون الذي كان يعمل باحثا في وزارة الخارجية الأمريكية وقد قامت القوات الجوية الأمريكية بتمويل بحثه الذي صدر في عام 1963 وحمل عنوان quot;سياسة التغير الاجتماعي في الشرق الأوسط وشمال أفريقياquot; كما تلقى باندراف سافران مدير دراسات الشرق الأوسط في جامعة هارفارد آلاف الدولارات لتمويل مؤتمر دولي بعنوان quot;الإسلام والسياسة في العالم الإسلامي المعاصرquot;. كما تلقى مبلغا آخر لتأليف كتاب آخر عن السعودية حمل عنوان quot;السعودية: البحث الدائم عن الأمن.quot; وقد صدر في عام 1985. ويبين الوهيبي أن تلك المراكز تلعب دورا عظيما في توجيه سياسات الدول الخارجية بالنظر إلى دقة دراساتها وعمقها وتوصياتها التي سرعان ما تؤخذ على محمل الجد والتنفيذ بحسب جدواها. إلا أن تلك الدراسات أخفقت عدة مرات كما يشير الوهيبي إلى رأي مايكل هيرش الذي قام بدراسة أسباب الفشل الغزو الأمريكي للعراق وعزاه إلى عدم الفهم الدقيق لطبيعة المجتمع العراقي واعتمد على سرد وتحليل لا يمت للعراق بصلة، كما يورد الوهيبي اعتراض سيف دعنا أستاذ العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية في جامعة ويستكونسون الأمريكية الذي رأى أن كل السرد التاريخي والتحليلات المتعلقة بالدول العربية مزورة ومنحازة ومتأثرة بالاستشراق الكلاسيكي الذي يتسم بالاستعلاء العرقي والتحيز الآيدولوجي.