في لقائه التاريخي الأخير برئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني بعاصمة الحلم الكردي وquot;كردستانه الكبرىquot; آمد / دياربكر، لم يتوانَ رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في وصف تركيا(ه) تحت قيادة حزبه (العدالة والتنمية) بquot;تركيا الجديدةquot;، أو quot;تركيا العائلة الواحدةquot;، وذلك في إشارةٍ واضحة إلى تركيا الواحدة، بلسانها الواحد، وثقافتها الواحدة، وتاريخها الواحد، وجغرافيتها الواحدة، وعلمها الواحد، وعمقها quot;العثمانيquot; الواحد، الممتد لأكثر من 500 عام في المنطقة.

لا شكّ أن أردوغان قد كسر في هذا اللقاء الرمزي مع بارزاني، العرف التركي في تعاطيه مع القضية الكردية، سواء على مستوى أكراد(ه) أو quot;أكراد الجيرانquot;. فهو أدخل لفظة quot;كردستانquot; لأول مرّة، بعد مؤسس الجمهورية التركية مصطفى أتاتورك عام 1923، إلى قاموس الدبلوماسية التركية. هذا ناهيك عن اعترافه بالبارزني في قلب دياربكر، بإعتباره رئيساً لإقليم كردستان العراق، لا كquot;رئيس قبيلةquot;، كما وصفه أردوغان ذات غضبةٍ سياسيةٍ، قبل أكثر من 6 سنوات.

الزيارة على أهميتها، سياساً واقتصادياً بالنسبة للطرفين، والتي سُوّقت إعلامياً في كلٍّ من تركيا وكردستان العراق بإعتبارها زيارة لمدّ الجسور بين الشعبين التركي والكردي، على قاعدة quot;أخوة الشعوبquot;، والمصالح المشتركة بين الأتراك والأكراد، إلاّ أنها جاءت في حقيقتها استجابةً لرغبة تركية بالدرجة الأساس، للتخفيف من وطأة quot;الكابوس الكرديquot;، الذي بات يقض مضاجع أنقرة، واستكمالاً لسياسة التدخل التركي في أزمة الداخل السوري بإعتبارها أزمة داخلها، وجرّ الأكراد إلى صراع المحاور في المنطقة، والحؤول دون تحوّلهم إلى ورقة قوية في سوريا المستقبل، قد تؤدي في النتيجة إلى خروجهم كquot;طُلاب قضيةquot; من تحت السيطرة، وامتداد الحريق السوري، بالتالي، شمالاً إلى تركيا، حيث يعيش فيها حوالي 20 مليون كردي (يشكلون حوالي نصف مجموع تعداد الأكراد في العالم) محروم من ممارسة حقوقه القومية والسياسية والثقافية.

الزيارة وما تلاها من تداعيات وتطورات، انعكست سلباً على علاقة الكردي بالكردي، بل الأصح على علاقة أكراد quot;دولة البارزانيquot; بأكراد quot;دولة قنديلquot;. ما يعني التمهيد، تركياً، ربما لصراع كردي كردي قادم في المنطقة.

الزيارة، بإعتبارها بوابة quot;الإنفتاح التركيquot; على كردستان العراق، لم تؤسس لعلاقة إقتصادية وتجارية متينة ومتطورة بين تركيا وإلإقليم الكردي فحسب، وإنما أسست أيضاً لعلاقة سياسية quot;تركية كرديةquot; جديدة، بين الطرفين، قد يكون عنوانها الأبرز تمهيد الأرضية لتدخل تركي قادم، عبر أدوات كردية، في quot;إقليم كردستان سورياquot;. وربما تأسيساً على هذا العنوان المحتمل للعلاقة المستقبلية بين أردوغان وبارزاني، يمكن تفسير تأكيدهما على quot;الموقف الموّحدquot; من quot;الإدارة الذاتية المؤقتةquot;، وتعبيرهما قبل وبعد الزيارة، عن رفضهما القاطع لها جملةّ وتفصيلاً. أردوغان ذهب أبعد من ذلك، مؤكداً على اتفاق الطرفين على quot;مكافحة الإتحاد الديمقراطي في سورياquot;، ومنعه من تشكيل أي كيان كردي في سوريا على غرار ما حدث في العراق.

أحد أهم الأسباب والعوامل التي دفعت بتركيا إلى التدخل quot;العاجلquot; في الأزمة السورية ودعمها بالتالي للمعارضات السورية، بشقيها السياسي والمسلّح، هو خوفها من خروج المارد الكردي من القمقم. فحكومة quot;العدالة والتنميةquot;، رغم توجهها الإسلامي المعتدل، إلا أنها لجهة الموقف من القضية الكردية لا تختلف بأي شيء عن الحكومات السابقة منذ quot;جمهورية أتاتوركquot; وحتى الآن. فأردوغان مثله مثل أي زعيم قومي تركي، لا يزال ينظر إلى الأكراد بإعتبارهم quot;أتراكاًquot; ليس لهم إلا الإنصهار في بوتقة تركيا الواحدة أرضاً وشعباً وثقافة ولساناً وعلماً ونشيداً.

صعود نجم الأكراد وبروزهم كلاعب أساسي في الأزمة السورية أعاد quot;الكابوس الكرديquot; الذي طالما راود تركيا وأقلقها، إلى الواجهة من جديد. هذا الكابوس يتحوّل يوماً إثر يوم إلى quot;أمر واقعquot;.

مبعث القلق التركي يكمن بالأساس في أن تتحوّل quot;دولة قنديلquot;، العدو اللدود، على مدى أكثر من ثلاثة عقودٍ ونصف، إلى دولة جارة لها. فمن المعروف أنّ quot;الإتحاد الديمقراطيquot; هو الحزب الأقرب آيديولوجياً لquot;العمال الكردستانيquot; في سوريا، والأكثر تجسيداً لتطلعات وأفكار زعيمه عبدالله أوجلان، في هذه الجهة من كردستان. أما مبعث القلق التركي الآخر فهو إحتمال إنشاء الأكراد لquot;هلال كردي مستقلquot; يتحد فيه أكراد سوريا مع أكراد العراق مما سيشجع أخوانهم في الشمال الذين يقدّر تعداداهم بأكثر من 20 مليون نسمة (أكثر من 20% من مجموع سكان تركيا) على القيام بخطوة مماثلة والمطالبة بحق تقرير مصيرهم في إدارة ذاتية، ما يمكن أن يهدد السيادة التركية.

ولكي تحمي تركيا نفسها من تداعيات وآثار سقوط سوريا، الذي لن يكون عليها برداً وسلاماً، خصوصاً في ظل ما تشهده سوريا من حرب أهلية حقيقية، أو ما يمكن تسميتها بquot;حرب الهوياتquot;، كان لا بدّ لها من كبح جماح المارد الكردي الذي يشترك معها في حدود طويلة تمتد لأكثر من 850 كم. وأسهل الطرق وربما أنجعها لتحقيق هذا الهدف، كما يقول التاريخ الكردي البعيد والقريب، فهو ضرب الكردي بالكردي وضرب كردستان بكردستان.

سيناريو quot;توحدquot; أكراد العراق وسوريا في quot;هلال كرديquot;، بات مستبعداً، على المدى القريب في الأقل، خصوصاً بعد إغلاق المعبر الحدودي الوحيد (سيمالكا) بين إقليم كردستان العراق وquot;إقليم كردستان سورياquot;، وزيارة بارزاني لأردوغان، وهو الأمر الذي أدى بالنتيجة إلى توتر العلاقات بين quot;أكراد البارزانيquot; وquot;أكراد أوجلانquot;، وصعود الحرب الإعلامية بين الطرفين.

لكنّ السيناريو الثاني وهو الأسوأ، تركياً، أيّ التحالف بين quot;العمال الكردستانيquot; وفرعه السوري quot;الإتحاد الديمقراطيquot;، لتحويل quot;إقليم كردستان سورياquot; إلى quot;جار ثقيلquot; على تركيا، واستغلال إمكاناته الإقتصادية والبشرية لدعم أخوانهم على الجانب الآخر من الحدود، وتشكيل quot;جبهة ضغطquot; ضد تركيا من أجل الرضوخ للمطالب الكردية، فلا يزال قائماً، خصوصاً بعد إعلان quot;الإتحاد الديمقراطيquot; عن تشكيل quot;الإدارة الذاتية المؤقتةquot;.

الآن وبعد مرور إسبوع على اتفاق quot;أردوغان بارزانيquot;، تبيّن أنّ الأكراد، بإعتبارهم جزءاً لا يتجزأ من المعادلة الإقليمية في المنطقة، باتوا منقسمين على أنفسهم بين محورين متصارعين، مثلهم مثل كلّ مكوّنات المنطقة: أكراد quot;المحور السنيquot; بقيادة quot;دولة بارزانيquot; وquot;أكراد المحور الشيعيquot; بقيادة quot;دولة قنديلquot;.

فشل تركيا في سياستها الخارجية مع جيرانها، طوال السنتين والنصف من اشتعال الحريق السوري، خصوصاً مع إيران التي نجحت في تعطيل quot;قطار السلامquot; الذي انطلق في آذار الماضي بمباردة من quot;العمال الكردستانيquot;، وجريان رياح الأزمة السورية بما لا تشتهي السفن التركية، ونجاح ال quot;YPGquot; الجناح العسكري لquot;الإتحاد الديمقراطيquot; في حماية المناطق الكردية حتى الآن، فضلاً عن نجاح هذا الآخير، سياسياً، في التوفيق بين ما يريده لأكراده وما يريده النظام لسوريا، كلّ ذلك دفع بالأتراك إلى quot;مواجهة الكابوس الكرديquot; الجاثم على صدورهم، والبحث، بالتالي، عن مخرج آخر من الأزمة المشتعلة على حدودها، للحؤول دون تحوّل الأكراد إلى قوة حقيقية يهدد أمن بلادهم واستقرارها.

ما تشهده الساحة الكردية هذه الأيام من صراعٍ بين quot;أكراد البارزانيquot; وquot;أكراد أوجلانquot;، وما يرافق ذلك من تعبئة وتحريض وحملات إعلامية ضد بعضهم البعض، يشي بإحتمال إنزلاق الأكراد إلى quot;حرب بالوكالةquot;، لن يكون فيها للأكراد بجهاتهم الأربعة، لا ناقة ولا جمل.

quot;الخيار الثالثquot; الذي سلكه الأكراد، طيلة السنتين والنصف الماضيتين، بإعتباره خياراً وسطاً بين طرفين متحاربين (النظام والمعارضة المسلحة) ما عاد خياراً ممكناً، خصوصاً بعد انضمام أكراد quot;المجلس الوطني الكرديquot; إلى quot;الإئتلاف السوريquot;. ما يعني أنّ الأكراد، بإعتبارهم جزءاً من الحالة السورية، مثلهم مثل غيرهم من المكوّنات الأساسية في النسيج الإثني السوري، دخلوا حلبة اللعب في سياسة المحاور الإقليمية، ليس ككردي واحد وإنما كأكثر من كردي، مختلف في أكثر من سوريا، وعلى أكثر من كردستان.

القضية الكردية برمتها، وفي أجزائها الأربعة، باتت تخضع بهذا الشكل أو ذاك للإستقطاب الإقليمي في إطار المحورين quot;السنيquot; وquot;الشيعيquot;. وتندرج زيارة رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني إلى آمد دياربكر، في إطار هذه السياسة، حيث تشهد المنطقة (وكردستان بأجزائها الأربعة ضمناً) تمذهباً سياسياً وتجاذبات إقليمية لم تشهدها من قبل.

تقسيم الأكراد، بحسب وصفة quot;أهل الثورةquot; وأصدقائهم وعلى رأسهم تركيا، إلى quot;أكراد أصدقاءquot; (أكراد الإئتلاف) بقيادة البارزاني وquot;أكراد أعداءquot; (أكراد النظام) بقيادة أوجلان، يعني عملياً التأسيس لquot;حرب إخوةquot; كردية كردية قادمة، واحتمال تكرار ما حصل بين أكراد العراق بين عامي 1994 و 1996، حيث راح ضحية الصراع على السلطة بين حزب رئيس الجمهورية جلال الطالباني الذي تحالف في حينه مع إيران، وحزب رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني المتحالف صراعئذٍ مع نظام صدام حسين، حوالي 5000 مقاتل ومدني.

الصراع بين الأخوة، حربئذٍ، كان، كما هو معلوم، صراعاً إقليمياً بإمتياز، تمّ تنفيذه بأدوات كردية. العامل الإقليمي الذي أسس للصراع الكردي الكردي، آنذاك، في كردستان العراق، والذي نجح في ضرب الكرد بالكرد وكردستان بكردستان، هو الآن العامل ذاته تقريباً الذي يمكن أن يؤسس للصراع ذاته بين الأكراد ذواتهم وفي كردستانهم ذاتها. فمن المعروف أن الحرب العراقية الإيرانية المعروفة بquot;حرب الخليج الأولىquot; (1980ـ1988) كانت في الأساس حرباً quot;خليجية إيرانيةquot;. ذات الحرب هي التي نراها اليوم تتكرر في سوريا، لكن بصورة أخرى، وأدوات أخرى، وعبر quot;وكلاء حربquot; آخرين.

الحرب الأهلية السورية، هي بالأساس فصل من فصول حرب تاريخية مذهبية سنية شيعية، تمتد لأكثر من 1333 سنة. الظروف الإقليمية التي أحاطت بالقضية الكردية العراقية وأدت في النتيجة إلى اندلاع quot;حرب الإخوةquot; هناك، تكاد تكون هي ذاتها التي تحيط الآن بالقضية الكردية السورية. هناك، رغم أن الحرب كانت قد وضعت أوزارها، لكن الصراع كان على أكراد العراق بين إيران quot;الصفوية المجوسيةquot; والعراق quot;بوابة العرب الشرقيةquot; على أشدّه. كلا العدوّين حاولا أقصى جهديهما لquot;تصديرquot; المشكلة الكردية إلى الآخر، عبر أكراد(ه). أما النتيجة فكانت واحدة: محو الكرد بالكرد، وقتل كردستان بكردستان. اليوم ربما يعيد التاريخ نفسه، بين الأكراد أنفسهم، في كردستان بنسختها السورية نفسها.

في صراعها على المنطقة ضد إيران، تحاول تركيا الآن مع أكراد سوريا، إعادة إنتاج ما لعبه صدام حسين مع أكراد العراق، في أواسط تسعينيات القرن الماضي.

هوشنك بروكا

[email protected]