سبق ان ذكرنا في مقال سابق عنوانه quot;مهزلة قانون الانتخابات والمحكمة الاتحادية في العراقquot; ان القانون الذي شرعه مجلس النواب العراقي يتضمن العديد من الاخطاء الشكلية والموضوعية التي تتيح امكانية الطعن به بكل يسر، ومن اهم ابواب الطعن ان القانون خالف قرار الدستور العراقي والمحكمة الاتحادية لان هذا القانون جاء بناء على (مقترح) مقدم من داخل المجلس، وليس (مشروع قانون) وهذا يعد مخالفة صارخة لقراري المحكمة الاتحادية المرقم (43) لسنة 2010 (44) لسنة 2010 القاضي بوجوب ارسال مقترحات القوانين المقدمة من اعضاء مجلس النواب او احدى لجانه المختصة الى السلطة التنفيذية (رئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية)، اي انها عدت فيهما أن كل (التشريعات) يجب أن تأتي من (رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء) دون أن يكون هناك حق دستوري لمجلس النواب في ذلك.

وهو الاساس الذي استندت اليه المحكمة في قرارها المرقم (64) في 28/8/2013 والذي نقض فيه قرار مجلس النواب العراقي بشأن تحديد الولايات الرئاسية الثلاثة، واشارت اليه quot;ان هذا القانون خالف الدستور المادة (60 اولا و 80 اولا وثانيا)، كونه جاء نتيجة مقترح وليس مشروع قانون، وان مقترح القانون لم يقدم الى السلطة التنفيذية.
وبعد مضي اسبوع على هذا المقال أجازت رئاسة الجمهورية العراقية لمجلس النواب صلاحية تشريع قانون الانتخابات البرلمانية لعام 2104 من دون إرساله الى رئيس الجمهورية أو مجلس الوزراء قبل إقراره بشكل نهائي وفق ما نص عليه الدستور، وبررت هذا الاجراء على انه جاء تلافيا لاحتمالات الطعن بالقانون من قبل المحكمة الاتحادية.
لكن السؤال المطروح هنا، هل حقا يملك نائب رئيس الجمهورية ورئاسة الجمهورية هذا الحق دستوريا، ومن اجل الاجابة الموضوعية لابد ان نتطرق الى الاتي:
1.ان الاجازة لا تساوي الحبر الذي كتب عليه، لأنه تجاهل مبدأ اساسيا وهو علوية الدستور، ويبدو ان صاحب القرار تجاهل عن عمد او عدم دراية مسالة التدرج التشريعي الذي يعني ان القواعد الدستورية لها المقام الاول بسبب مبدأ علوية (سمو) الدستور ثم تأتي بعدها القوانين الصادرة من السلطة التشريعية المتخصصة والتي لابد أن تكون منسجمة مع القواعد الواردة في الدستور، و تليها بعد ذلك الأوامر الصادرة من السلطات التنفيذية والتي تصدر من الجهة المتخصصة قانونا ويلزم عدم مخالفتها للدستور والقوانين النافذة وإلا تم الطعن بها بعدم شرعيتها أو عدم دستوريتها وتكون جميع الاثار المترتبة عليها باطلة.
وقد اخذ المشرع العراقي بهذا المبدأ فقد نصت المادة (13) من الدستور على الاتي:
اولاً:ـ يُعدُ هذا الدستور القانون الاسمى والأعلى في العراق، ويكون ملزماً في انحائه كافة، وبدون استثناء.
ثانياً:ـ لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع هذا الدستور، ويُعد باطلاً كل نصٍ يرد في دساتير الاقاليم، او أي نصٍ قانونيٍ آخر يتعارض معه.
2. المفارقة الكبرى ان الاجازة تتضمن خطيا الاقرار بعدم دستورية قانون الانتخابات، إذ تنص على الاتيquot;صوت مجلسكم الموقر بجلسته ( 32 ) المنعقدة بتاريخ 4/1/2013 على مقترح قانـون ( انتخابات مجلس النواب العراقي ) المقدم من قبل اللجنة القانونية في مجلسكم، ولما كان (مقترح ) القانون هو ( فكرة ) على وفق رأي المحكمة الاتحادية العليا في العديد من قراراتها، كان ينبغي احالة تلك الفكرة الى احدى الجهتين المحددتين في البند ( اولا ) من المادة ( 60 ) من الدستور، وهما: رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء، ولما كانت قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتة وملزمة للسلطات كافة بمقتضى المادة ( 94 ) من الدستور، ولما لم يتم الالتزام بحكم البند ( اولا ) من الدستور بإرسال ذلك المقترح الى رئيس الجمهورية أو مجلس الوزراء لتقديم تلك الفكرة كمشروع قانون اليكم من قبل احدى الجهتين المذكورتين، ولتلافي احتمالات الطعن بمقترح ( انتخابات مجلس النواب العراقي ) في حالة الطعن به امام المحكمة الاتحادية العليـا مستقبلا، فان رئاسة الجمهورية وبعد الاستئنـاس بآراء خبـراء الدستور ورجال القانـون ((تأذن لكم وتجيـز الاجـراء )) الـذي قمتم به بتشريع القانـون المذكـور دون الرجوع الينـا او الـى مجلس الوزراء، على اعتبار ان (.... الاجازة اللاحقة في حكم الوكالة السابقة.... ) استنادا لما تضمنته المادة ( 928 ) من القانون المدني العراقي رقم ( 40 ) لسنة 1951، آملين ان يكون هذا الإجراء هو الأخير حفاظاً على مصداقية وسمعة مجلس النواب الذي نعتز به ونحرص عليه جميعاً.
وبذلك تعترف الاجازة بان قانون الانتخابات قد شرع مخالفة للدستور وقرارات المحكمة الاتحادية الملزمة.
3. الاستناد الوحيد الذي اتكأت عليه الاجازة هي المادة (928) من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951، وجاء على موقع رئاسة الجمهورية quot;أكدت رئاسة الجمهورية انها تجيز لمجلس النواب العراقي التصويت على مقترح قانون انتخابات مجلس النواب، استناداً لما تضمنته المادة ( 928 ) من القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951. وهذا تدليس ما بعده تدليس، لان هذا الاستناد يوحي بان هذه المادة تجيز للرئاسة اعطاء مثل هذه الاجازة، وهذا ما تم فهمه والاشارة اليه في كثير من تصريحات الساسة والمهتمين بالشأن العراقي دون ان يكلفوا انفسهم عناء قراءة نص هذه المادة حيث تنص المادة (928) على الاتي quot;اﻻذن والأﻣﺮ ﻳﻌﺘﺒﺮان ﺗﻮﻛﯿﻼً اذا دﻟﺖ اﻟﻘﺮﻳﻨﺔ ﻋﻠﯿﻪ، واﻻﺟﺎزة اﻟﻼﺣﻘﺔ ﻓﻲ ﺣﻜﻢ اﻟﻮﻛﺎﻟﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ، بمعنى ان المادة هذه تعالج مسالة التوكيل ولا تعطي الاذن لرئاسة الجمهورية بان تتخذ هكذا قرار. اي ان الدستور او هذه المادة لاتتيح مطلقا وباي تفسير كان للسلطة التنفيذية ورئاسة الجمهورية التصرف على هذا النحو.
4. حتى لو تطرقنا الى مسالة التوكيل، فالاجازة تجاوزت الشق الاول الذي يقول بان الاذن والامر يعتبران توكيلا إذا دلت القرينة عليه، لكن هذا التوكيل لا يستند الى اية قرينة، بل انه تجاوز المادة (933) التي نصت quot;ﻋﻠﻰ اﻟﻮﻛﯿﻞ ﺗﻨﻔﯿﺬ اﻟﻮﻛﺎﻟﺔ دون ﻣﺠﺎوزة ﺣﺪودھﺎ اﻟﻤﺮﺳﻮﻣﺔquot;.
5. طرحت الاجازة دون ان تعطى لها صفة واضحة في اي نص من نصوصها، هل هو قرار، ام اجراء، ام بيان، هل هو مذكرة تفسيرية، وهذه مسالة تثير الاستغراب والتعجب، لكن صياغة النص تفهم على انه بيان.
6. بموجب هذه الاجازة، منحت السلطة التنفيذية لنفسها حق التفسير والتشريع معا، وهذه سابقة لم تسجل في اي دولة من دول الديمقراطيات، بمعنى انها احتلت اضافة لوظيفتها، الوظيفة السلطة القضائية حينما فسرت اجازتها للبرلمان، والسلطة التشريعية حينما اعطت هذه الاجازة.
7. ان الاجازة هي ترقيع سياسي لقانون جاء مخالفا للدستور وقرارات المحكمة الاتحادية، وبالتالي فان التدرج التشريعي لا يمنح هذا الحق الى نائب رئيس الجمهورية ان يتصرف على هذا النحو.
8. القانون لايحمي المغفلين، ومن صاغ هذا القانون عليه ان يتحمل تبعات التصرف دون اخذ الاعتبار بالتكييف القانوني له، وان لا يعالج الخطأ بخطأ اكبر وهذا ما تم فعلا عن طريق الاجازة.
8. من المؤلم الاشارة الى ان هذه الاجازة اتخذت بناءا على الاستئنـاس بآراء خبـراء الدستور ورجال القانـون، وفي ذلك اساءة للمنظومة القانونية والنظام القانوني العراقي ورجالات القانون، لأنها تتجاوز ابسط مبادئ الدستور والقانون.
صفوة القول ان هذه الاجازة تعكس حجم الفوضى والتجاوزات والارتجال الذي يعم اجهزة الدولة، ويعطي انطباعا مفاده ان القرار السياسي هو الحاكم الاول وليس مبدأ سيادة القانون الذي من ابسط اشتراطاته علوية او سمو الدستور والتدرج التشريعي.