لاشك أنّ المرأة قد عانت لعصور طويلة من الظلم والإضطهاد والقهر والإستعباد والإستغلال بمختلف ألوانه وأشكاله. وقد تم تجاهل بعض الحقوق فى الكثير من القوانين والتشريعات على مر التاريخ. رغم أن قوانين حمورابى تضمنت 92 قانونا يخص المرأة فيها حقوقها للبيع والتملك والتجارة والوراثة والتوريث من مجموع 282. والجدير ذكره تربع نساء عبر العصور المنصب الأعلى كالملوكية وغيرها حيث وصلت سمير أميس فى العصر البابلى إلى السلطة وباتت ملكة لمدة خمس سنوات، وفى عصر الفراعنة وغيره تميزت المرأة ووصلت للحكم والسلطة مرارا وتكرارا ,,, على سبيل المثال لا الحصر فقد حكمت كليوباترا السابعة لمدة عشرين عاما كما حكمت شجرة الدر وغيرها كقير، ولكن بعض الثقافات والديانات قد وضعت عناوين غير سليمة لانتقاص المرأة والنظر إليها كرمز للشر والعورة والفتنة والبلاء. وقد كان لذلك أسباب دينية ثقافية إجتماعية تاريخية، فقد وردت فى الأحاديث والروايات المنسوبة ضعيفة سندا أو دلالة مثلا (النساء نواقص العقول والإيمان) (إن النساء همهن زينة الحياة الدنيا) (إياك ومشاورة النساء فإن رأيهن إلى أفن وعزمهن إلى وهن) (خيار خصال النساء شرار خصال الرجال) (المرأة شر كلها) (المرأة عقرب حلوة اللبسة) (إنما النساء عى وعورة فاستروا العورة بالبيوت واستروا العى بالسكوت)، وأمثالها كثير عاشت فى قلوب البعض أو عقولهم مما جعل جوا عاما ضد المرأة وحريتها واحترامها
وإن كنت قد ناقشت سابقا هذه الروايات المأثورة ورددت كل هذه الأحاديث من حيث السند والرواة أولا، وكذلك من جهة دلالاتها بعد دراسة الظروف الموضوعية وقصص وقوعها لو افترضنا صحتها جدلا، فضلا عن تعارضها مع القرآن كآيات سورة النساء وغيرها، والسنة النبوية والوقائع التاريخية الكثيرة لمن راجع معاملة النبى مع زوجاته كخديجة بنت خويلد التاجرة المعروفة وعائشة بنت أبى بكر وحفصة بنت عمر ورملة بنت أبى سفيان وزينب بنت جحش وزينب بنت خزيمة وسودة وهند وصفية وبرة وميمونة، وبناته كفاطمة الزهراء، والنساء الأخريات وقصص قرآنية كثيرة كخولة بنت الأوس التى حاججت النبى واشتكت إلى الله حتى أنزل أحكاما لعلاج تلك المشكلة الكبيرة وهى ظاهرة الظهار حتى قال الله فى قرآنه (قد سمع الله قول التى تجادلك فى زوجها وتشتكى إلى الله والله يسمع تحاوركماإن الله سميع بصير. الذين يظاهرون منكم من نسائهم ماهن أمهاتهم إن أمهاتهن إلا اللاتى ولدنهم) وقد وصل رفض الله لهذه الظاهرة لدرجة قوله تعالى (إنهم ليقولون منكرا من القول وزورا) وهكذا كانت هذه المرأة وموقفها الشجاع سببا فى حل معضلة كبيرة وظاهرة خطيرة ضد النساء
كتب الشاعر جميل صدقى الزهاوى مقالا بعنوان (المرأة والدفاع عنها) فى جريدة المؤيد بتاريخ السابع من آب عام 1910 م وكان مقالا قويا يدافع فيه عن المرأة وحقوقها وحرياتها وهو ينتقد المتزمتين دينيا مما أثار جدلا كبيرا وردود أفعال كبيرة فى بغداد والقاهرة وغيرهما. كان فى الضد بعض رجال الدين المتشددين أمثال جواد الشبيبى وبجهة الأثرى ومصطفى الواعظ ومحمد النقشبندى وقد شنت حملة عنيفة ضد الزهاوى والشكاوى عند والى بغداد ناظم باشا مما أدى إلى طرد الزهاوى من التدريس من مدرسة الحقوق وهجوم سافر عليه كخارج على الشريعة واتهم بالزندقة والكفر والإلحاد
كانت الحملة واسعة وكتبت المقالات ضدّه واستغلت المساجد والجوامع لتحريض الناس عليه مما جعلته يعيش محسورا فى بيته ردها من الزمان
لكنه لم يأبه بعد مدة لينظم الأشعار تلو الأشعار فى هذه الأفكار وتحرير المرأة وحريتها، والذى يرجع إلى ديوانه المطبوع عام 1924م يجده حافلا بهذه القصائد الخالدة
لقد تأثر الزهاوى بأوربا وحضارتها وهو يشاهد حرية المرأة واشتراكها بمختلف المجالات والإختصاصات فى بناء الدولة المدنية الحديثة... إنه المثقف والمفكر المتأثر بفيلسوف المعرة وبالكوميديا الإلهية لدانتى، فجمع الحداثة والفلسفة القديم والحداثة والمعاصرة كما كانت حركته الثورية السياسية ورفضه للظلم
قال فيه طه حسين (لم يكن الزهاوى شاعر العربية فحسب ولا شاعر العراق بل شاعر مصر وكل الأقطار العربية لقد كان شاعر العقل وكان معرى هذا العصر ولكنه المعرى الذى اتصل بأوربا وتسلح بالعلم) قالها فى رثائه وهو يجهش بالبكاء حزنا على فقده وخسارته
قال الزهاوى فى حرية المرأة
أسفرى فالحجاب يابنة فهر هو داء فى الإجتماع وبيل
لم يقل فى الحجاب فى شكله هذا نبى ولا ارتضاه رسول
كل شئ إلى التجدد ماض فلماذا يقر هذا القديم
أسفرى فالسفور للناس صبح زاهر والحجاب ليل بهيم
أسفرى فالسفور فيه صلاح للفريقين ثم نفع عميم
زعموا أن فى السفور انثلاما كذبوا فالسفور طهر سليم
لايقى عفة الفتاة حجاب بل يقيها تثقيفها والعلوم
شخّص الزهاوى العادات التى تعوق تحرر المرأة والمجتمع فقال
ثوروا على العادات ثورة حانق وتمرّدوا حتى على الأقدار
لأن الزهاوى يعتقد أن الأمة تعيش التخلف بتبرير كل شئ بالقدر دون أن
تسعى لتغييره وإصلاحه
كما يشير إلى التعصب الناشئ عن الجهل سببا فى التخلف
هو التعصب قد والله أخَّركمْ
عن الشعوب التي تسعى فتقترب
يؤكد الزهاوى على المقارنة بين الحجاب والسفور
كان الحجاب يسومها
خسفا ويرهقها عذابا
إن الأ ُلى قد أذنبوا
هم صيروه لها عقابا
وسيطلب التاريخ من
ناس لها ظلموا الحسابا
كما يقارن بين الغرب وتقدمه والشرق وتخلفه
الشرق ما زال يحبو وهو مغتمض
والغرب يركض وثباً وهو يقظان
والغرب أبناؤه بالعلم قد سعدوا
والشرق أهلوه في جهل كما كانوا
كان الزهاوى يتساءل فى العدالة بزواج الرجل من أربعة نساء دون المرأة فإذا ببابه يطرق ويطلب شباب أن يمارسوا الجنس مع زوجته لتحقيق العدالة بزواج المرأة من أربع ولم يكن سهلا للزهاوى التخلص منهم ومن أمثالهم الكثيرين لأن الساحة الدينية قد تعبأت ضده كما ذكر ذلك المفكر الإجتماعى
على الوردى
وفى معرض انتقاده للطلاق بيد الرجل دون المرأة وقد يكون ثملا سكرانا
وقد يطلقها في حانة ثملاً
وليس تدري لماذا طلق الثمل
كان عاشقا لجمال المرأة وتساءل مرة
ما أتعس الحسناء يملك أمرها الزوج العنيف
فأجابه أحدهم فهل يجوز التعنيف بغير الحسناء
لعله تأثر بحركة قاسم أمين فى مصر لتحرير المرأة وهجوم رجال الدين عليه ولا يبعد التأثر مع رفاعة الطهطاوى وهدى شعراوى وطه حسين ومحمد عبدة وغيرهم
رغم السجال بينه وبين الرصافى لكنهما مدافعين عن تحرير المرأة فقد قال
الشاعر معروف الرصافى
لئن وأدوا البناتِ فقد قبرنا جميعَ نسائنا قبلَ المماتِ
ولو عدمت طباع القوم لؤمًا لما غدت النساء محجباتِ
وقال الرصافى أيضا
ولقومنا في الشرق حالٌ كلما زدتَ افتكارًا فيه زدت تعجبا
إنه موضوع قديم منذ قصة آدم وحواء والتفاحة والجنة وقصة خروجه من الجنة وإغواء حواء له كما فى بعض التراث الذى يروى بأحاديث ضعيفة أنها خلقت من ضلعه الأعوج فأغوته وأخرجته من الجنة؟؟!! وفى الكلام جدال ونقاش فليس كل ما ورد فى التراث صحيح أو أن له قراءة واحدة حتى أن تفاصيل القصة لاتوجد فى كتاب واحد
مما ساد نقلا عن موروث غير ثابت ولا محقق أو لها ظرف خاص ومناسبة معينة تفهم من سياقه وظروفه الموضوعية (المرأة عورة) (خير للمرأة أن لاترى رجلا ولايراها رجل) (لايفلح قوم ولوا شؤونهم امرأة) (النساء نواقص العقول والحظوظ والإيمان) (المرأة شرّ كلها) (المرأة أساس المعصية) وغيره من العجائب الغرائب التى تجعل المرأة وكأنها شر مطلق وكأن الرجل خير كله، وهذا ما لايقبله عاقل
ناسين أو متناسين فى قبال تلك المرويات أحايث كثيرة مثل (المرأة ريحانة وليست بقهرمانة) (أحب من دنياكم النساء) (دخلت الجنة فوجدت أكثر أهلها من النساء) (إرحموا المرأة ترحَموا) hellip; وكان النبى آخر من يودّعه النساء ويطلب دعاء النساء فيعتبره مستجابا عند الله تعالى. وقصة أم موسى ومريم بنت عمران واضحة جلية فى القرآن توضح قدرهما ومنزلتهما الكبيرتين، فكيف يمكن أن يأخذ بعضهم نَصّاً ينتقيه ويترك النصوص الأخرى
الحجاب وحبس المرأة واعتبارها عورة هى عادات منقولة لأقوام قبل الإسلام فلا تختص بالمسلمين ولعلها تتعلق بالأعراف والتقاليد فقد جاء عن سقراط (يجب حبس المرأة لأنها عورة) فأخذت منه لا من الدين مما يجعل الحجاب يتعايش مع البلاد وظروفها وأزمانها وأماكنها فقد كان الناس رجالا ونساءا فى الصحارى يغطون رؤوسهم من الحر والتراب وغيره
كما رأى بعض الفقهاء الوالمجتهدون من القدماء والمعاصرين عدم وجوب ستر الشعر بل الأمر يتعلق بصدر المرأة (فى الآية جيوبهن) والجيب لايشمل الشعر مستدلين بالتراث والأعراف والقرآن والسنة ومن المعاصرين زكى بدوى وحسن الترابى وحسين فضل الله وغيرهم
أما الغرب فقد حصلت المرأة فى أمريكا مثلا على حق الإنتخاب عام 1924 وفى بريطانيا عام 1945 وغيرها ثم تجاوزتها إلى مراحل وقد تطورت الأمم والثقافات والتشريعات خصوصا بعد الإعلان العالمى لحقوق الإنسان فى 10/12/1948 حيث بدأت المرأة تأخذ حقوقها شيئا فشيئا حتى وصلت مثل السيدة ماركريت تاتشر إلى رئاسة حزب المحافظين سنة1975 ثم منصب رئاسة الوزراء منذ 1979 وحتى 1990 فترة طويلة متميزة ولقبت آنذاك بالمرأة الحديدية وأثبتت قدراتها السياسية والإدارية فقد أصبحت أول قيادة سياسية فى تاريخ بريطانيا تكسب ثلاثة إنتخابات وطنية متتالية ومتلاحقة
أما مجتمعاتنا العربية فلازالت هنالك سلطة ذكورية وثقافة ذكورية فيها تمييز ومحاباة للرجل ضد المرأة وهذا ما أظهرته أيضا الدراسات الأدبية فى القصص والروايات والأفلام والتراث وهى تكشف بألم ومرارة عن الإزدواجية فى التعامل مع المرأة، كزوجة وحبيبة تارة، وكبش فداء وملك فردى أشبه بالإستعباد تارة أخرى. فشتان بين أمينة عند إحسان عبد القدوس وأمينة عند نجيب محفوظ، وكتابات طه حسين وقاسم أمين وهدى الشعراوى ومصطفى أمين وشبلى شمل، لذلك نقد محمد قطب رواية (اللص والكلاب) لنجيب محفوظ فى جدلية الخير من خلال الشر وحركته فى الرواية حيث تسوق المتابع إلى التعاطف مع الظروف والمحنة. وإذا نظرنا إلى التشريعات الحديثة بصالح المرأة نظريا فإن الممارسة منقادة للتقاليد والأعراف فى التمييز ضد المرأة لذلك لاتصل المرأة إلى المناصب العليا رغم الحديث المطنب عن أهميتها ودورها وقدراتها. وقد أجبر الواقع حتى المتشددين والمتطرفين ومن لايؤمن أصلا بحقوق المرأة، بالحديث عن حقوق المرأة لكى لا يرمى بالتحجر والإنغلاق والتخلف الذى ترفضه الحياة والعلم والواقع والمدنية، مما يثير كثير من الأسئلة حول مصداقية الشعارات التى يستخدمونها حول المرأة وحقوقها وحرياتها.
فى العراق أخيرا مثلا حيث أجبرت الظروف الموضوعية وضع كوتا للمرأة حتى تشارك النساء فى البرلمان بنسبة معينة لكن هؤلاء السياسيين أنفسهم عندما جاؤوا يتقاسمون الوزارات المترهلة جدا لعدد يزيد على الأربعين وزارة، لكنهم جميعا تجاهلوا النساء فى جميع الوزارات حيث أن جميع الأحزاب وقياداتها الرجولية حتى المدافعين ظاهرا عن حقوق النساء، قد رشحوا رجالا دون أى إمرأة أبدا رغم اعتراض البعض
ومن أغرب الغريب فى الواقع المعاصر هو حقيقة ماذكره على الوردى من التناقض بين القول والعمل لظاهرة بعض المثقفين والليبراليين المطالبين بحقوق النساء بقوله (يدعو إلى حرية المرأة فى الصحف والمجالس لكنه يحجر عليها فى البيت) فقد رأينا الكثير منهم يتزوج المحجبة غير المتعلمة لكنها ينطلق مع غيرها فى نواديه وأفراحه وخلواته وهم يفرقون بين الزوجة الساذجة (عبدة) والعشيقة المنفتحة وتعاملهم مع الجسد الأنثوى والمقاسات مختلفة مما يكشف ازدواجية المعايير بين القول والفعل، الوهم والواقع، الشعار والممارسة، الشكل والحقيقية
أراد البعض التحجير على المرأة وحبسها فى الدار لتكون أمة له يستعبدها لكن الحياة قد تطورت وأن العالم يرفض العبودية وأن المرأة قد تعلمت وتنورت وناضلت ومعها رجال مؤمنون بها وبحريتها وتحررها فالحياة تكتمل بتلاقح الجنسين وأحدهما يكمل الآخر، كما قال الزهاوى
وكل جنس له نقص بمفرده
أما الحياة فبالجنسين تكتمل