تركيا أخطأت في حساباتها في المنطقة بشأن quot;الملف الكرديquot;، خلال السنوات العشر الماضية، مرّتين: مرّة في العراق، عندما رفض البرلمان التركي في آذار/ مارس 2003 مشاركة تركيا في الحرب ضد النظام العراقي، وهو ما انعكس على مصالحها العليا لاحقاً، من quot;تهديدquot; لأمنها القومي، وأخرجها من مولد quot;العراق الجديدquot; بلا حمّص، وصعود كردستان العراق، بالتالي، كجار غير مرّحب به، على حدودها، هذا ناهيك عما لحق بquot;القضية التركمانيةquot; في العراق من آثار سلبية أضرّت بتركمانها، على عكس ما كان يتمناه الأتراك، وذلك على أكثر من صعيد، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً وديموغرافياً. ومرة أخرى في سوريا، بدخولها الخطأ، على خط الأزمة مع quot;الشريك الخطأquot;، في الزمان الخطأ، والمكان الخطأ، وذلك من خلال بنائها لكلّ سياساتها بشأن quot;الملف السوريquot; على افتراض quot;السقوط العاجلquot; للرئيس السوري بشار الأسد، وهو ما لم يحدث حتى الآن، بعد مرور حوالي 33 شهراً على quot;الثورة السوريةquot;، التي تحوّلت إلى حرب طائفية طاحنة بين سوريّتين: quot;سوريا السنيةquot; تقودها الجماعات الإسلامية المسلحة، وquot;سوريا العلويةquot; تقودها النظام.

في المرّة الأولى، خسرت تركيا العراق، لتخسر معها واحدةً من أهم بواباتها على العالم العربي بشكلٍ عام، ودول الخليج بشكلٍ خاص، ناهيك عن تحوّل إقليم كردستان العراق، إلى quot;كردستان أمر واقعquot; على حدودها. أما في المرّة الثانية، فقد خسرت تركيا سوريا والعراق، ومعهما إيران أيضاً، لتنتقل، بالتالي، على صعيد علاقاتها بquot;عمقها الإستراتيجيquot;، من سياسة quot;صفر مشاكلquot; إلى سياسة quot;صفر جيرانquot;.

وإذا كانت تركيا قد أخطأت في العراق بإدارتها لظهرها للعراق، بدون مشاكل وquot;وجع رأسquot;، فأنها أخطأت في سوريا بوضعها لنفسها في قلب العاصفة السورية. تركيا، وكما أكدّ على ذلك مسؤولون أتراك سابقون ومحللون استراتيجيون، لم تفهم جيداً تعقيدات الحالة السورية، سواء على المستوى الداخلي أو الإقليمي، وهو ما دفعها إلى الذهاب في موقفها بعيداً، دون أن تترك لنفسها خط رجعة.

أما الخطأ الأكبر الذي ارتكبته تركيا، على مستوى تدخلها المباشر في الشأن السوري، فهو تعاطيها مع الأزمة السورية كأنها أزمتها، ومحاولتها فرض نفسها على الواقع الجديد، عبر تشكيلها لquot;معارضات إسلاميةquot;، سياسية وعسكرية، لمصادرة دور بعض الدول العربية في المنطقة، مثل السعودية ومصر.

الآن، بعد سقوط سيناريو quot;الحل العسكريquot; في سوريا، واتفاق الروس والأميركان على quot;الحل السياسيquot; بإعتباره المخرج الأمثل، لا بل quot;الوحيدquot; من الأزمة السورية، كما أكدت على ذلك روسيا على الدوام، ومعها أميركا والجامعة العربية مؤخراً، كان لا بدّ لتركيا، مثلها مثل الكثير من الدول التي غاصت في وحل الأزمة السورية، من أن تعيد النظر في حساباتها، وأن تحجز لها مقعداً في قطار المبادرة الروسية الأميركية.

quot;فوبيا الأكرادquot; أو ما يمكن تسميتها بquot;الكردستانوفوبياquot; هي الهاجس الأكبر الذي أرّق تركيا ولا يزال يؤرقها ويدفعها للمواجهة، خصوصاً بعد إعلان quot;الإتحاد الديمقراطيquot; (PYD) المقرّب من quot;العمال الكردستانيquot; عن تشكيل quot;إدارة ذاتية مؤقتةquot; على المناطق التي تقطنها غالبية كردية، والتي تقدّر مساحتها بأكثر من 24 ألف كم مربع، وتسيطر عليها quot;قوات حماية الشعبquot; (YPG)، الذراع العسكرية لquot;PYDquot;.

زيارة رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود بارزاني الأخيرة لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، في دياربكر/ آمد قلب عاصمة أكراد الشمال، جاءت في بعضها ضمن هذا السياق، لquot;مكافحة عناصر حزب الاتحاد الديمقراطي، وامتداد حزب العمال الكردستاني في شمال سورياquot;. كما تبيّن من تصريحات الطرفين، قبل وبعد الزيارة. كلّ ذلك بالطبع ليس بدون مقابل، ولا بدافع quot;العداء التاريخيquot; لquot;العمّال الكردستانيquot;، كما قرأنا أو سمعنا أو شاهدنا، هنا وهناك، وإنما بدافع quot;المصالح المشتركةquot; بين الطرفين.

أما هدف بارزاني الأكبر من وراء وجوده في دياربكر مع أردوغان، فكان، كما تبيّن من الزيارة غير الناجحة لرئيس حكومة الإقليم نيجيرفان بارزاني، هو التمهيد لquot;اتفاق كردي تركيquot; استراتيجي، على شرعنة الحق الكردي في نفط كردستان، لبيعه عبر الأراضي التركية إلى الأسواق العالمية، دون الرجوع إلى بغداد.

لكنّ ردّ تركيا على طلب بارزاني بفتح الطريق أمام quot;النفط الكرديquot;، جاء سريعاً، وذلك برفضها إرضاء هولير على حساب بغداد، في الوقت الذي لا يزال quot;أكراد بارزانيquot; وquot;أكراد أوجلانquot; منشغلين بمعاركهم الكلامية ومشاحناتهم وخلافاتهم السياسية، التي اشتدّ أوارها على خلفية زيارة بارزاني الأخيرة. الحكومة العراقية أعلنت مراتٍ عديدة عن معارضتها الشديدة لأي اتفاق بين تركيا وكردستان العراق حول أنبوب النفط، وحذرّت الطرفين من مغبة تصدير النفط كثروة وطنية من دون موافقتها، الأمر الذي سيضر بقوة بالعلاقات بين بغداد وأنقرة، التي شهدت فتوراً على خلفية مواقف الطرفين من الأزمة السورية.

بُعيد quot;الرفض التركيquot; الأخير للطلب الكردي، بساعات، وربما كquot;إجراء احترازيquot;، للتلويح بquot;المؤتمر القومي الكرديquot;، الذي سعت تركيا مراراً لإفشاله، دعت هولير إلى quot;اجتماعٍ عاجلquot; بين حزب بارزاني، وquot;العمال الكردستانيquot; وفرعه السوري quot;الإتحاد الديمقراطيquot;، بهدف quot;توحيد مواقفها وازالة الخلافات فيما بينهاquot;.

خسارة تركيا الرهان على الحركات الإسلامية وعلى رأسها quot;جماعة الأخوان المسلمينquot;، التي فشلت، بعكس ما تمنّته حكومة quot;العدالة والتنميةquot;، فشلاً ذريعاً، في قيادة دول quot;الربيع العربيquot; (سواء في مصر أو ليبيا أو في تونس، ناهيك عن سوريا)، إلى جانب خسارتها في quot;المغامرة السوريةquot; الكثير من تماسكها ووحدة موزاييكها الإثني، على مستوى جبهتها الداخلية، بفعل نشاط الأحزاب اليسارية والقومية التي يشكلّ العلويون (تقدر نسبتهم بحوالي 15ـ20% من مجموع سكان تركيا) فيها قاعدتها الجماهيرية. والزيارات المكوكية المتكررّة لمسؤوليها، وعلى أرفع المستويات إلى المنطقة، بهدف ترطيب الأجواء مع الجيران وعلى رأسهم إيران والعراق، وتأكيدها بين الزيارة والأخرى، من خلال تصريحاتها، على ضرورة تفعيل اتفاقية quot;التعاون الأمنيquot; المشترك بين طهران وبغداد وأنقرة. ورضوخ حكومة أردوغان لضغوطات الحكومة العراقية بعدولها عن quot;مغامرتهاquot; بعلاقاتها مع بغداد لخاطر عيون هولير. زدّ إلى ذلك صعود quot;كردستان أخرىquot; في الخاصرة الجنوبية والجنوبية الشرقية لتركيا، تشترك معها في حدود يبلغ طولها 850 كم.

كلّ هذه العوامل والأسباب والتحوّلات مجتمعةً، هي مؤشرات حقيقة على حدوث تغيّر كبير في موقف تركيا بشأن الأزمة السورية وما نتج عنها من صراعات إقليمية، واحتقانات تاريخية، واصطفافات مذهبية طائفية، ما سيدفعها على الأرجح، إلى تغليب كفّة مصالحها العليا، كquot;دولة قوميةquot; للأتراك، قائمة على قاعدة quot;كلّ تركي يساوي العالمquot;، والتي يقطنها حوالي 20 مليون كردي، متهمون بquot;الإنفصاليةquot;، ويشاركون أكرادهم السوريين، التاريخ ذاته، والجغرافيا ذاتها، والثقافة ذاتها، والحلم ذاته، على كفة مبادئها بإعتبارها quot;دولة مسلمةquot; يقطنها غالبية سنّية.

موقف تركيا، بغض الطرف عن حكوماتها ومسمياتها وتوجهاتها، من أقصى اليمين القومي، إلى أقصى اليمين الديني، من quot;القضية الكرديةquot; وأكرادها، بإعتبارهم quot;أتراكاًquot; من تركيا إلى تركيا، ليس لهم إلا الإنصهار في البوتقة التركية الواحدة، زماناً ومكاناً، ثقافةً ولساناً، سياسةً واجتماعاً، هو موقف تركي ثابت، وquot;خط أحمرquot; ليس بمقدور أحد، حتى الآن، تجاوزه.

أردوغان، دعا بارزاني إلى دياربكر، على الأغلب، ليس حبّاً باللعب مع الأكراد على جيرانه، وإنما للعب مع الجيران عليهم، وللتضحية بهم، بالتالي، في أقرب بازار سياسي، وأقرب فرصة سياسية ممكنة، ليربح اللعب مرتين: مرّة في الداخل ضد المعارضة التركية، ممثلةً بأحزابها القومية، التي طالما اعتبرت quot;انفتاحquot; حكومته على القضية الكردية، بأنه خروج على مبادئ الدولة التركية. وأخرى في الخارج مع جيران تركيا الذين يشتركون معها في القضية الكردية ذاتها، والفوبيا ذاتها، والأكراد ذواتهم.

أخيراً لم يبقَ لنا إلا أن نسأل: هل وقع بارزاني في فخ أردوغان؟