أجيال من العراقيين ضاعت، وخاصة الشبان منهم، فلم يستمتعوا لا بطفولتهم ولا بشبابهم، وسيق الكثيرون منهم الى جبهات القتال خلال الحكم البعثي، واستشهد منهم ما لا يقل عن نصف مليون قتيل، ومليوني جريح ومعوق كلهم فى سن الشباب. أما عن الأرامل والثكالى فحث ولا حرج. وجاء العهد الجديد ليثبت أنه ألعن من سلفه، فبدلا من التنافس على خدمة الشعب وإعادة الاعمار، قامت صراعات دموية على السلطة والمناصب يقودها سياسيون يؤازرهم معممون أعاقوا الإصلاح الذى شرعت به حكومة المحاصصة الطائفية، وضاعت هيبة الدولة، وتنابز المتنافسون بالألقاب، وشتم بعضهم بعضا بأقذع الشتائم التى لا يتلفظها حتى اسافل السوقة والعوام، وعمت الفوضى وفُقد الأمن والأمان، وضاعت أموال البلد كما ضاعت القيم والأخلاق.

قبل اسبوعين هطلت الأمطار بشدة غير مألوفة فى معظم أنحاء العراق، وغرقت الشوارع والبيوت، وتعطلت الأعمال، وتعسر على الموظفين الوصول الى دوائرهم والطلاب الى مدارسهم. وهنا فقط تذكر الجميع مجارى الماء المخربة (المثاعب) لتقادمها، وبسبب عدم حرص المواطنين على صيانتها بعدم رمي النفايات والأحجار فيها. وتبين أن بعض السياسيين ساهموا بافتعال الانسدادات فى المجاري ليثبتوا عجز المسؤولين وليزيدوا فى تذمر المواطنين. ثم وافق تلك الأمطار حصول الزلازل لتزيد فى بؤس وشقاء المواطنين.
ففى الأسبوع الماضي، حصلت هزات أرضية فى مناطق من شمال العراق ووسطه، أعنفها كانت بقوة 5.6 بمقياس ريكتر، ولم يبلّغ عن ضحايا ولا خسائر مادية. حذرت بعض الجهات من احتمال حصول هزات جديدة، مما سبب القلق والرعب بين السكان، وهجر بعضهم دورهم. وفى المساجد إغتنم بعض الأئمة والخطباء هذه الفرصة فقاموا بتحذير المصلين من غضب الله عليهم لأنهم يرتكبون المعاصي ولا يقومون بواجباتهم الدينية على الوجه الأكمل، وهم الذين قاموا بتسهيل دخول قطعان الانتحاريين الغرباء الذين جاؤوا من كل حدب وصوب لتفجير أنفسهم العفنة بين الأبرياء من الناس. ولم يسلم منهم النساء والأطفال، والشيوخ والعجزة، وطلبة المدارس والجامعات والأساتذة، والعمال والأطباء، وقتلوا حتى المرضى الراقدين فى المستشفيات، فهل عرف العالم قسوة ووحشية أكثر من هذه؟ وكالعادة فان معظم الضحايا هم من الأبرياء من عابرى السبيل، فما هى ذنوبهم يا حماة الدين؟ ولماذا اقتصرت هجماتكم على المسئولين فقط ولم تتضمن ارشادات للمواطنين للحفاظ على المشئات العامة التى أقيمت لخدمتهم؟ وكما يقال اليد الواحدة لاتصفق، فالمسؤولون لا يستطيعون القيام بواجباتهم على الوجه الأكمل ما لم يتعاون المواطنون معهم.
إن الكوارث ممكن ان تحصل فى كل بقاع الأرض، وتصيب بأضرارها جميع الشعوب، وليست مقتصرة على فئة دون أخرى، فتقوم الدول المتقدمة بالتخطيط لدفع الأذى عن شعوبها وشعوب العالم قاطبة، وقد أعدت كل ما تستطيع عمله لدرء أخطار النيازك والشهب، مثلا، والتى قد ترتطم بالأرض فى أي بقعة وأي وقت. وكذلك الاستعداد لمنع حدوث وانتشار الأوبئة والأمراض والآفات الفتاكة، ويتعاون جميع سكان الأرض فى هذا السبيل. أما الجدل حول ما إذا كانت تلك الكارثة بسبب غضب الله تعالى او الطبيعة فلن يحمى او يفيد ذلك احدا.
الكوارث التى مرت على البشر كثيرة لا تعد ولا تحصى، وذُكر بعضها فى كتب التأريخ، ومنها:
فى عام 1783 انفجر بركان (لاكى) فى جزيرة آيسلندا الواقعة فى شمال غربي بريطانيا، وتسبب فى قتل حوالى 9000 انسان من سكان الجزيرة. قذف البركان ثلاثة أميال مكعبة من الحمم السائلة ومئة مليون طن من ثانى اوكسيد الكبريت بالاضافة الى غازات سامة اخرى قتلت الناس والزرع والماشية. وسبب ذلك الانفجار حصول جفاف شديد امتد الى شمال افريقية ووادى النيل حيث مات سدس سكان مصر. ولا شك ان أغلبية من ماتوا من المصريين كانوا مسلمين. وامتد الجفاف الى شبه الجزيرة العربية والهند حيث انحسرت الأمطار وهبطت مناسيب الأنهار وحل القحط فيها. وفى عام 1973 ثارت البراكين مرة أخرى فى آيسلندا وانطلقت الحمم مكتسحة كل شيء أمامها. كان فى طريقها كنيسة ورفض القسيس مغادرة الكنيسة قائلا ان الله سيحميه والكنيسة منها. توقفت الحمم على مقربة من الكنيسة، ونجى القس والكنيسة. ولكن بعد ايام بدأ الناس هناك يموتون بسبب استنشاقهم للغازات السامة المنبعثة من الحمم ومات القس معهم أيضا، وبقيت الكنيسة ماثلة للعيان.
عندما حصلت ظاهرة تسونامي فى جنوب شرقي آسيا فى عام 2004 ظهرت على شاشة التلفزيون صورة مسجد يحيط به الخراب بعد ان انحسر عنها الماء، وقال المسلمون بأن الله قد أنقذ المسجد -المبني بالآجر والكونكريت- ولم يتطرق أحد منهم الى بيوت الفقراء المبنية بالطين والقش وأغصان الشجر والتى كانت تحيط بالمسجد، وانهارت على رؤوس ساكنيها، ولا الألوف من المسلمين الذين فقدوا مساكنهم وأصبحوا بدون مأوى، وسارعت الدول (الكافرة) الى ارسال المعونة وفرق الانقاذ لمساعدة الناس فى محنتهم يستصحبون (الكلاب النجسة) للبحث عن المطورين تحت الأنقاض.
الفياضانات والغرق والهزات الأرضية سمات لبلدان جنوب شرقي آسيا، تصيب بأضرارها المسلمين وغير المسلمين. ففى بنغلاديش قتلت 139 ألف مسلم فى عام 1991، وكل عام تقريبا يغرق اكثر من نصف الدولة ويتجدد الموت والدمار فيها. وفى 12 ايلول (سبتمبر2007) توالت الهزات الأرضية على اندونيسيا المسلمة، وبلغ مجموع القتلى والجرحى 90 الف انسان ودُمر 20 ألف منزل. وخلال الأعوام القليلة الماضية تكررت الهزات الأرضية وما يصحبها من دمار فى تركيا وايران والمغرب والجزائر. ففى عام 2004 حصلت هزة أرضية فى المغرب دمرت 6 قرى وقتلت أكثر من 500 انسان وجرحت أكثر من ألفين. وفى عام 1960 حصلت هزة دمرت مدينة أغادير المغربية باكملها وقتلت ثلث سكانها الخمسين ألفا. وفى ايران عام 1990 حصلت هزة قتلت أربعين ألفا، وفى الجزائر قتل عشرون ألفا فى هزة أرضية. وحدثت هزة فى تركيا عام 1999 قتل فيها 14 ألف انسان.
موقع مكة المكرمة فى واد بين الجبال جعلها عرضة للسيول التى تنتج عن هطول سريع وشديد للأمطار فتغرق الكعبة وما حولها. وفى زمن الخليفة عمر بن الخطاب (رض) بنى سدين لحماية الكعبة من السيول، التى تكرر حصولها فى زمن الخلفاء الراشدين وما بعدهم (ولكن الكعبة حُرقت ودُمرت على يد الحجاج قائد جيش يزيد ابن معاوية، وأعاد بناءها عبد الله ابن الزبير). وقبل أكثر من ربع قرن أغرقت السيول سبعين شخصا اعتصموا بالكعبة هربا منها.
وهكذا نجد أن الكوارث الطبيعية لا تميز بين المسجد والكنيسة، والمسلم وغير المسلم، و الذكر والأنثى، والأسود والأبيض، والكبير والصغير، والخيّر والشرير، بل لا تميز حتى بين الانسان والحيوان.