في خضم الصراعات المحتدمة التي تعصف بالعراق والمنطقة، والقلق العالمي من تداعيات استمرار النزاعات المذهبية على السلم والاستقرار الدوليين، وتعالي أصوات العقلاء الى ضرورة توحيد الصف والتصدي للانقسامات، قام السيد وزير العدل العراقي بتقديم مشروع قانون جديد للأحوال الشخصية يخص المذهب الجعفري الكريم، دون غيره من المذاهب، لمناقشته في مجلس الوزراء ومن بعدها يتم عرضه على مجلس النواب.
من الناحية الدستورية، يعارض مشروع هذا القانون المادة الثانية التي تنص على عدم جواز تشريع قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية، كما لا يبيح الدستور التمييز على أساس الجنس او الطائفة. أما المادة 41[1] التي تخص الأحوال الشخصية فهي من المواد الهلامية والمختلف عليها في الدستور، وقد طالبت قوى سياسية عديدة بإلغائها بشكل كامل، أو تعديلها بما يسبب أقل ضرر. علما ان المادة تحمل من التناقض ما يلغيها، فالعراقيون (أحرار) بالالتزام بأحوالهم الشخصية.. وينظم ذلك بقانون. والسؤال، ما داموا (أحراراً)، فما الذي يجيز إجبارهم على الالتزام بأي قانون؟

لا يمكن عزل مبادرة السيد وزير العدل عن الصراع السياسي القائم واستراتيجيات ورؤى بناء الدولة العراقية بعد عام 2003. فالعراق الذي عانى من الحروب والاستبداد لعدة عقود، دخل بعد الاحتلال في صراع جديد على الهويات الفرعية المذهبية والقومية بعد أن تراجعت الكثير من القوى السياسية عن الهوية الوطنية الجامعة، وقدمت نفسها وتنافست في الانتخابات على أساس التمثيل الجهوي.

وبينما كانت الصراعات في الجزء الأكبر من القرن العشرين تدور رحاها بين قوى اليمين واليسار، القومية والديمقراطية، ويشترك في طرفيها مواطنون ينتمون الى مذاهب وقوميات مختلفة، تحول الصراع في القرن الواحد والعشرين الى تنازع بين انتماءات فئوية ذات توزيع جغرافي واضح، مما ينذر بتفكيك البلاد ndash;لا سمح الله- اذا استمرت سياسات التخندق وتجذير الخلافات.

قام المجلس الأعلى للثورة الاسلامية برئاسة المرحوم السيد عبدالعزيز الحكيم بتبني فكرة إلغاء قانون الأحوال الشخصية والعودة للشريعة السمحاء، وذلك بإصدار القرار 137 عام 2003، والذي أثار حفيظة الحركة النسوية بشكل خاص والمجتمع بشكل عام وتشكلت قوة ضغط مما دفع مجلس الحكم الى التصويت على إلغاء القرار. وبمرور الوقت وزيادة الخبرة بطبيعة المجتمع العراقي وتعقيداته وغلبة الحكمة خفت إصرار المجلس الأعلى واستمر قانون الأحوال الشخصية رقم (188) لعام 1959 نافذاً في محاكم الدولة.

ان قضية قانون الأحوال الشخصية تتجاوز حقوق المرأة التي نص عليها القانون، الى صراع على الهوية الوطنية العراقية التي يراد إلغاؤها واستبدالها بهويات فرعية تنسجم مع الصراعات الإقليمية من ناحية، والاستعداد للانتخابات الوطنية القادمة والتنافس على أصوات الطائفة من ناحية أخرى. فالقانون نفسه لا يحتوي أية مادة تتعارض مع الشريعة السمحاء، ولم نسمع باعتراض أي رجل دين على مادة بعينها، أو طلباً بتعديلها. بل ان أكثر من متحمس لإلغاء قانون الأحوال الشخصية أكد على ان المشكلة لا تكمن في مواد القانون، وانما بوجوده أصلاً.

ان من أبرز تداعيات إصدار مثل هذا القانون هو تعزيز تسلط رجال الدين على المجتمع وولوجهم في التفاصيل الأسرية من خلال حالات الزواج والطلاق والإرث وغيرها، أمام تراجع دور القضاة الذين يتم تأهيلهم مدنياً ولسنوات طويلة على التعامل مع هذه الحالات.

من الصعوبة أن ينجح مشروع القانون الذي تقدم به السيد وزير العدل، سواء في مجلس الوزراء أو مجلس النواب. فالكتل المختلفة أصبحت على وعي بخطورة هذا القانون على اللحمة الوطنية ومستقبل البلاد. وفي كردستان العراق أقر برلمان الإقليم قانون الأحوال الشخصية العراقي النافذ بعد إجراء تعديلات تزيد من حقوق المرأة وتعزز دورها، مما يجعل موقف التحالف الكردستاني واضحاً في هذه القضية الحساسة. أما العراقية فقد رفضت إلغاء القانون منذ اليوم الأول، ومهما بلغت الخلافات بينها فانها تجتمع في الدفاع عن القانون النافذ. كما ان تصريحات وزيرة الدولة لشؤون المرأة والتي دافعت فيها عن قانون رقم 188 لعام 1959 تشير الى ان ائتلاف دولة القانون لن يوافق بسهولة على تمرير مشروع القانون المقدم.

ولا بد من الإشادة بموقف سماحة السيد حسين اسماعيل الصدر الذي اكد فيه على ضرورة تشريع قوانين مدنية حرصاً على اللحمة الوطنية، والابتعاد عن القوانين ذات الطابع الديني التي تجر البلاد الى صراعات مذهبية وفقهية نحن في غنى عنها.

اخيراً، كنت أتمنى على السيد وزير العدل أن يقدم مقترحاً برفع الحواجز الكونكريتية بين الأحياء بما يعيد التواصل واللحمة بين الناس، بدلاً من أن يقترح مشروعاً لحواجز كونكيريتية غير مرئية لتقطيع أوصال المجتمع بأكمله.