إذا كان ' الأولون لم يتركوا لنا شيئا '.. بحجة أنهم قالوا كل شيء، ودشنوا كل شيء، ونحن لا حاجة لفعل أي شيء، وكأننا بلا إرادة، أو وعي، أو مسؤولية، أو حرية..فلنمت..!
حقا، ما فائدة أن نعيش الحاضر، والماضي لم يترك لنا شيئا، كيف نبحث فيه، كيف نتأمله أو نعيشه بدمنا وروحنا وعقلنا؟
هل نقتل ما تبقى من صناعة التاريخ فينا، ونرمي بقوة الحاضر إلى الهاوية؟
هل نقيم مشانق الإعدام في ساحات الحاضر لشعرائنا وكتابنا ومفكرينا وفلاسفتنا؟
هل نحرق كل كتبنا ومجلاتنا وورقنا.. ونكسر كل أقلامنا اليوم؟
وهل بهذه الطريقة في مقاربة الزمن والإنسان تصنع الأمم تاريخها؟
***
نحن في حاجة اليوم إلى أسئلة توقظنا من سباتنا الاديولوجي العميق؛ كتلك الأسئلة التي طرحها ديكارت ذات أيام باردة.. أيام الزمن الساخن بالقتل والتعذيب، بالظلم والظلام، في عمق مدينة واسعة الفكر جغرافيا.. أطلق عليها بعد حين اسم : مدينة الأنوار؛ ومن سائر تلك الأسئلة : هل أنا موجود؟ وهل أنا شيء مفكر؟
وقبل أن نجيب عن تلك التساؤلات، هل نستطيع حقا أن نخرج من لغتها.. من وجودنا.. من تاريخنا؟
هل نستطيع أن نتوقف عن التفكير فيـ﴿نا﴾ وقـد علمنا الأولون- أنفسهم- أنه بالتفكير يثبت وجود الذات؛ أليس في البدء كانت الكلمة، ولا يمكن أن تكون laquo; الكلمة raquo; إلا إذا كان هناك فكر ينتج تفكيرا وتفكرا، أي تفاعلا مع المجتمع والذات وآيات الكون وظواهره..
***
إن خطابا من قبيل quot; الأولون لم يتركوا لنا شيئا quot; فارغ من كل معنى، وهو في أقرب تقدير سلاح ذو حدين، أما الأول: فيخفي توجيها إيديولوجيا يشوه الحاضر ويزيفه، بل الأدهى من ذلك يقوم بقلب حقائقه ومعانيه، فبدلا من التأمل فيه يقوم ذلك الخطاب quot; التوجيهي quot; بإغلاق كل فرص التفكير والتأسيس لعصر إبيستيمي جديد، يقوم على فضح زيفه وكشف حجابه !
أما الثاني فهو خطاب يدفعك إلى العدم؛ وَنَحْنُ.. كما قال الحاضر بيننا محمود درويش :
نُحِبُّ الحَيَاةَ إذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ
وَنَرْقُصُ بَيْنَ شَهِيدْينِ نَرْفَعُ مِئْذَنَةً لِلْبَنَفْسَجِ بَيْنَهُمَا أَوْ نَخِيلاَ
نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ
وَنَسْرِقُ مِنْ دُودَةِ القَزِّ خَيْطاً لِنَبْنِي سَمَاءً لَنَا وَنُسَيِّجَ هَذَا الرَّحِيلاَ
وَنَفْتَحُ بَابَ الحَدِيقَةِ كَيْ يَخْرُجَ اليَاسَمِينُ إِلَى الطُّرُقَاتِ نَهَاراً جَمِيلاَ
نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ
وَنَزْرَعُ حَيْثُ أَقمْنَا نَبَاتاً سَريعَ النُّمُوِّ، وَنَحْصدْ حَيْثُ أَقَمْنَا قَتِيلاَ
وَنَنْفُخُ فِي النَّايِ لَوْنَ البَعِيدِ البَعِيدِ، وَنَرْسُمُ فَوْقَ تُرابِ المَمَرَّ صَهِيلاَ
وَنَكْتُبُ أَسْمَاءَنَا حَجَراً rsquo; أَيُّهَا البَرْقُ أَوْضِحْ لَنَا اللَّيْلَ rsquo; أَوْضِحْ قَلِيلاَ
نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلا...
والحياة التي نحبها بالفكر والورد والشعر. في الحاضر كما في الماضي والمستقبل. وعلى التحقيق ليس هناك إلا الوقت الذي هو ما بين زمانين : الماضي والمستقبل. ومن سعده الوقت: فالوقت له وقت، ومن ناكده الوقت: فالوقت عليه مقت.. أو كما قال الإمام العارف عبد الكريم القشيري.
***
الماضي لم يكتمل، ولن يكون مكتملا إلا بالحاضر.. بأسئلته وحواراته والمسافات التي يفتحها معه : نقدا، وفحصا، وتأويلا. وما عرفوا الماضي حقا، ولو عرفوه ما قالوا حين قالوا ' الأولون لم يتركوا لنا شيئا '.. !
من عرف الماضي كان بلا وصل أو فصل..بل في دهشة، وغاية المعرفة الدهشة، وكل معرفة بلا دهشة ليست معرفة.
باحث في الفلسفة والفكر الصوفي.
للتواصل : [email protected]