من مفكرة سفير عربي في اليابان

حولت تكنولوجية الاتصالات والمواصلات العالم لقرية كونية صغيرة، كما ترافقت التطورات التكنولوجية الصغيرة ببعثرة القوة بين عناصر متطرفة ومتناثرة، لتتحول القوة العسكرية المنظمة للقوى الكبرى إلى قوة مترهلة مكلفة. كما أدت نظريات الرئيس الأمريكي رونالد ريجن ورئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تشر في خصخصة الدولة وتصغير الحكومات لتحويل سوق الرأسمالية الفائقة إلى سوق عولمة حرة منفلتة عن الانظمة والقوانين، مما أدى إلى الأزمة المالية لعام 2008، والتي سببت ارتفاع الديون الغربية، ولتنتهي بأزمة العولمة السياسية، والتي بدأت من تونس في الشرق الاوسط، وانتشرت عالميا من نيويورك إلى الدول الأوربية. وقد أدت هذه الأزمة لواقع عالمي جديد، والتي من المتوقع أن تنتهي لما سماها المفكر الغربي، إيان بريمر، بعالم مجموعة الصفر، أي بمعني أنه لم يعد هناك في العالم مجموعة مستعدة لقيادة سفينة العولمة، بعد أن قررت الولايات المتحدة خفض ميزانياتها العسكرية، وتجنب الحروب الغير قانونية، وفي الوقت الذي تترد الصين بلعب دورا قياديا في عالم العولمة الجديد، لانشغالها بتحدياتها الوطنية التنموية.
وقد برزت ظواهر هذه التغيرات الجديدة جلية في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وخاصة بعد اكتشفت التكنولوجيات المتطورة مصادر هائلة للطاقة في الولايات المتحدة، لتقل أهمية إسرائيل في الاستراتيجيات الأمريكية المستقبلية في الشرق الاوسط، وتزداد الحاجة لتشكيلة جديدة من حلفاء الولايات المتحدة. وقد أدى هذا الواقع الجديد لزيادة الهوة بين واشنطن وتل أبيب، وخاصة بعد أن تطورت المحادثات الإيرانية الغربية، وليخلق ذلك قلق كبير للدبلوماسية الإسرائيلية. وقد قرأت مقالا باللغة الانجليزية عن التغيرات الجديدة في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، ووجدت من الضرورة أن يطلع عليه القارئ العزيز في دول الشرق الأوسط.
فقد كتب الكاتب الاستراتيجي الأمريكي، جورج فريدمان، في الصحيفة الاستراتيجية الالكترونية، ستراتفور، وبعنوان موقع الاسترتيجي الجديد لإسرائيل، يقول فيه: quot;لقد أبدت الحكومة الإسرائيلية قلقها من الاتفاق الأمريكي الإيراني الأولي، والذي من الناحية النظرية، سيلغي العقوبات الاقتصادية عن طهران، وينهي برنامجها النووي. وقد كان ذلك متوقعا، ولكن من غير الواضح ما الذي يقلق الحكومة الإسرائيلية؟ وكيف ستغير استراتيجياتها القادمة؟quot; ويعتقد الكاتب بأنه من الواضح بأن الوضع الإسرائيلي الحالي ممتاز. فبعد سنتين من القلق، بقت معاهدة السلام مع مصر مستمرة كما هي، كما أن سوريا في حالة حرب أهلية، وليس هناك حلول لها. وقد يكون من المحتمل أن يبرز تهديد إرهابي، ولكن لا يوجد هناك احتمال لأي تهديد استراتيجي. فلا يبدو في لبنان بأن حزب الله مستعد لحرب جديدة مع إسرائيل، بالرغم من تطوير قدراته الصاروخية. كما لا تستطيع إسرائيل التعامل مع هذا التهديد بدون أن يشكل تهديدا إستراتيجيا لها. وبكلمة اخرى، فقد أستمر الواقع الذي فرضته اتفاقية كامب ديفيد للسلام. فحدود إسرائيل محمية من الهجوم العسكري التقليدي، بالإضافة أن الفلسطينيين منقسمين في ما بينهم، ومع أنه من الممكن ان تتكرر هجمات صاروخية غير مؤثرة من غزة، ولكن ليس هناك احتمال انتفاضة جديدة في الضفة الغربية.
ويستنتج الكاتب من ذلك بأنه ليس هناك تهديد فعلي لإسرائيل في المنطقة يهدد وجودها، ما عدا احتمال أن تطور إيران قنبلة نووية، وتستخدمه للقضاء على إسرائيل، قبل أن تستطيع الولايات المتحدة الوقاية من هذه الضربة. وطبعا ستكون الضربة النووية لإسرائيل مدمرة، وتحملها لهذا الإحتمال، بقدر ما يكون غير محتمل، يبقى قلقا كبيرا لشعبها. لذلك يتقدم البرنامج النووي الإيراني على أية أوليات أمنية أخرى لإسرائيل. وتعتقد إسرائيل بأن على حلفائها مشاركتها في هذه النظرة، وكأساسيات استراتيجية يمكن تفهم الواقع الإسرائيلي، ولكنه ليس جليا كيف ستتعامل إسرائيل مع واقع العولمة الجديد، كما انه ليس واضحا كيف سيكون نتائج الرد على هذا التهديد على علاقاتها مع الولايات الأمريكية. وتتفهم إسرائيل بأنه مهما أن تكون الأوضاع الأمنية في صالحها، وإلا فمستقبلها لا يمكن تخمينه. فقد لا تعتمد إسرائيل على الولايات المتحدة بثقل في هذه الأوضاع، وهناك سيانريوهات كثيرة لعدم تمكن إسرائيل التعامل مع التهديدات الأمنية، بدون الدعم الأمريكي.
فلذلك يعتقد الكاتب بأن على إسرائيل أن تحافظ على علاقاتها مع الولايات المتحدة، مع ضمان بألا تصبح إيران دولة نووية. لذلك، وجود أي إحساس إسرائيلي بأن الولايات المتحدة ستتخلص من التزاماتها نحو إسرائيل، أو القبول بإيران نووية، هي أزمة كبيرة لها، لذلك من الضروري فهم الرد الفعل الإسرائيلي، ودراسة الفرضيات التي ورائها. والحقيقة بأن إيران لا تملك تكنولوجية الدفع المتطورة لاستخدام السلاح النووي، ولا القدرة على توفير المادة النووية الكافية حتى الان، ولا حتى خلال الشهور الستة القادمة. كما لا يمكن لإيران أن تطور سلاح نووي بدون تجريبه تحت الأرض، وان حاولت، سيفشل أي هجوم نووي، ولينتهي برد فعل أمريكي مدمر. ولنفترض بأن إيران نجحت بأن تلقي القنبلة النووية على إسرائيل، ولكن ستؤدي هذه القنبلة أيضا لقتل الكثيرين من العرب والمسلمين، في إسرائيل، والضفة الغربية، وقطاع غزة، ولبنان، وسوريا. ومن غير المحتمل بأن يسمح الشعب الإيراني لحكومته بهذا الهلوكست البشع، والذي سيكون الرد عليه مدمرا تماما لإيران.
ويعتقد الكاتب بأن إسرائيل ليس لديها الامكانية لمحاولة تدمير القدرة النووية الإيرانية، كما رفضت الولايات المتحدة حتى أعطاء اعتبار واقعي لإيران نووية، لانه بعيد المنال حتى الان. وقد وجد الامريكيون فرصتهم في عدم وجود السلاح النووي الإيراني، مع نجاح تأثر العقوبات الاقتصادية، كما وجد أيضا الإيرانيون فرصتهم للتقدم لموقع افضل، بعد المعاناة الاقتصادية. والحقيقة بأن ما كانت تتمناه الولايات المتحدة هو التفاهم مع إيران، لخلق توازن بين الدور الإيراني، ومع باقي الدول الأخرى في المنطقة، وخاصة المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات، quot;ولربماquot;، quot;ولدرجة ماquot;، إسرائيل. فمن الواضح بأن الولايات المتحدة quot;ما زالتquot; مهتمة بمنطقة الشرق الأوسط، ولكنها في نفس الوقت لا تريد أن تستخدم أية قوة عسكرية فيها، كما تريد واشنطن أن يكون لها علاقات عديدة في المنطقة، وليس فقط مع إسرائيل، والمملكة العربية السعودية.
ويؤكد الكاتب الحاجة لفهم رد الفعل الإسرائيلي على المحادثات الأمريكية الإيرانية. فإسرائيل تعرف فعلا بأن معضلة إيران النووية، ليست معضلة آنية، بل هي معضلة بعيدة الأمد، كما أنه ليس هناك فرصة لنجاح أية عملية هجوم عسكري، لذلك اقتنعت إسرائيل بأن الحل هو في المفاوضات، فهي الوسيلة الوحيدة التي يمكنها أن توقف المشروع النووي الإيراني. كما أنه لو لم تنجح هذه المفاوضات، ستكون محاولة الرد العسكري على الخطر النووي الإيراني، حل خطير جدا على إسرائيل. لذلك اعتبرت إسرائيل طريق المفاوضات والانتظار ستة شهور أخرى قد يكون هو الحل الوحيد في هذه المرحلة، بالإضافة بأن إسرائيل تفهمت بأن نجاح هذه المفاوضات قد يكون سببا لبدأ تحالف استراتيجي جديد مع إيران.
لقد كان التحالف الأمريكي الإيراني قويا حتى عام 1979، كما بينت تجربة نيكسون وكيسنجر مع الصين، بأن الأيديولوجية لا يمكن أن تعرقل الوقائع الجغرافية السياسية. أي بكل بساطة إيران تحتاج للاستثمارات الأجنبية، والشركات الأمريكية تتلهف للاستثمار في إيران. كما تحتاج إيران التأكد بأن العراق صديقة لمصالحها، وبأن ليس هناك تهديد روسي أو تركي على الأمد البعيد، ولن يضمن لها ذلك إلا الولايات المتحدة. وفي نفس الوقت تريد الولايات المتحدة ايران قوية، لتحتوي الدعم السعودي للتمرد السني، ولجبر تركيا تخفيف حدة سياساتها الشرق أوسطية، ولتذكر روسيا بأن ليس هناك تهديد من الجنوب بل عليها التركيز على الشمال.
فباختصار شديد يعتقد الكاتب بأن الولايات المتحدة تحاول خلق منطقة متعددة القطبية في الشرق الأوسط، لتسهل استراتيجية توازن القوى، لتأخذ دورها الجديد بدل القوة الأمريكية. ومع أن الواقع الإسرائيلي آمن اليوم، ولكن نظرة بعيدة لعقد قادم، لن تستطيع إسرائيل فرض بأن الإستراتيجيات الحالية ستبقى كما هي، فمستقبل مصر غير معروف، فبروز حكومة مصرية معادية لإسرائيل غير مستبعد، كما أن سوريا ولبنان تبدو متفتتة اليوم، ولكن وما سيكون نتيجة كل ذلك في المستقبل فليس جليا. كما لا يمكن التخمين هل ستبقى الأردن مملكة هاشمية بعد عقد من الزمن، أم ستتحول إلى دولة فلسطينية. ومع أنه لا أحد يملك اليوم قوة عسكرية تستطيع مجابهة إسرائيل، ولكن نظرة للتاريخ تبين بأن مصر صعدت مأساة حرب عام 1967 لتصبح قوة متمكنة في عام 1973، كما كان الاتحاد السوفيتي نصيرهم، فقد يكون الروس نصير جديد لهم بعد عقد من الزمن.
ويؤكد الكاتب بأن إسرائيل لا تحتاج لقوة الولايات المتحدة اليوم، ولا تحتاج حتى للمساعدة الأمريكية، ولكن ستستمر إسرائيل في حاجة لرمز الدعم الأمريكي، وستستمر في الحاجة إليه. والتخوف الإسرائيلي اليوم هو أن يتحول الدعم الأمريكي المباشر في الأمس إلى مضاربات ماكرة ضدها، وسيكون ذلك تهديد حقيقي لإسرائيل لو احتاجت للدعم الأمريكي المباشر في يوم ما. والخطر الأكبر هو أنه كلما كانت لدي الولايات المتحدة علاقات طيبة في المنطقة، كلما قلت الاهمية الإستراتيجية لإسرائيل للولايات المتحدة. فمثلا لو حافظت الولايات المتحدة على تحالفاتها مع المملكة العربية السعودية، وتركيا، وإيران، ستخسر إسرائيل مركزها الرئيسي في السياسة الأمريكية، لتصبح جزئية في أطرافها الغير أساسية، وهذا هو التخوف الإسرائيلي الحقيقي من المفاوضات الأمريكية الإيرانية الجديدة.
وينهي الكاتب مقاله بالقول: quot;وفي النهاية فإسرائيل ما هي إلا دولة صغيرة ضعيفة، وقد ضخمت قوتها لضعف جيرانها، وضعف جيرانها ليس أبدي. كما تغيرت السياسات الأمريكية بطرق عديدة منذ عام 1948، ويبدو بأن هناك تغيرات جديدة في سياسات الولايات المتحدة. فقد كانت تعتمد إسرائيل على الدعم اللا محدود من الشعب والكونجرس الأمريكي، وقد قل هذا التعاطف في السنوات الاخيرة، ولكن لم يجف تماما حتى الآن. وقد خسرت إسرائيل في هذه المرحلة شيئين: فقدت أولا السيطرة على الاستراتيجية الأمريكية، وفقدت ثانيا سيطرتها على العملية السياسية الأمريكية. فرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنجامين نتنياهو، يكره المحادثات الأمريكية الإيرانية ليس بسبب السلاح النووي، ولكن يكرهها بسبب التحولات الاستراتيجية في السياسة الامريكية. لذلك، عليه أن يكون أكثر تحسبا في انفعالاته، لأن تأثير إسرائيل على الولايات المتحدة قد أصبح أقل بكثير مما كان عليه.quot;
ويبقي الأسئلة التالية لعزيزي القارئ: هل ستستفيد دولنا العربية من هذه الفرصة من التغيرات الإستراتيجية العالمية، أما ستضيعها كما ضاعت فرص كثيرة في عنتريات كاذبة خلال العقود الستة الماضية منذ تأسيس الدولة العبرية؟ وهل ستضع روية واقعية حكيمة جديدة للواقع الإسرائيلي والفلسطيني علي خارطة الشرق الأوسط، لتلعب دورا واقعيا في جذب الاستثمارات الاجنبية، لتنمية المنطقة، وإسعاد شعوبها؟ أم ستنشغل بالعنتريات الانفعالية بإلقاء إسرائيل في بحور الشرق الأبيض المتوسط؟ وهل حان الوقت لشعوب منطقة الشرق الأوسط لبدأ العمل على التنمية الاقتصادية بتجنب الثوريات الانفعالية، وبدء العمل لوضع خطط اصلاحية مستقبلية، تطور المنطقة لسيليكون فالي للتكنولوجيات اليابانية والهندية والصينية والبرازيلية والامريكية والأوربية؟ وهل حان الوقت لوقف خطباء المنابر من الخطابات السياسة quot;النجسةquot;، وتحويلها لخطابات الحكمة والفضيلة والأخلاقيات والروحانيات؟ وهل سيبدأ شباب الشرق الأوسط العمل معا لكسب العلوم التكنولوجية وتطبيقاتها، بدل تضيع الوقت في خرافات ثيولوجية وأحلام وممارسات ثورية كاذبة؟ وهل ستستفيد حكومات المنطقة مما حققته دبي من انجازات في تجربتها التنموية؟ وهل ستتفهم الدولة العبرية بأن بقائها في الشرق الأوسط يعتمد على تناغم تعاونها مع شعوبها، وليس على تفتيت بلدانهم لدويلات طائفية صغيرة متقاتلة؟ ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان