كلمة quot;علمquot; في اللغة العربية من quot;الإعلامquot;، أي الإخبار بما يعرفه آخرون، وبقدر ما تشير جذور الكلمات لمضمونها، يكون quot;العلمquot; كما هو حادث لدينا بالفعل عملية تلقين واستظهار، ويكون دور العقل مجرد الاستيعاب والتخزين. وعندما يتضاءل دور العقل في حياتنا، ويتحول إلى أداة لاختزان واجترار النصوص المقدسة، تتحول الحياة إلى أزمة في ذاتها، كحصاة تستعصي على الذوبان في تيار الحياة المتدفق، فنعجز عن أن نعيش الواقع، كما لو انحشرنا في فجوة زمنية، تحتجزنا في كهوف الماضي.

يعد وهم الوصول لليقين بمثابة تجميد لوظيفة العقل، فتصور امتلاك الحقيقة المطلقة، قد يدفع البعض لارتكاب كل الجرائم والموبقات دفاعاً وترويجاً لتلك الحقيقة، وهم يستشعرون أنهم يؤدون عملاً مقدساً. لذا فإن استبدال اليقين بالشك هو الحل. فإذا توصلت إلى اليقين، فاعلم أن عقلك قد صار معطلاً عن العمل. هي معضلة كيف تدفع الناس للتخللي عن دفء اليقين الموروث منتهي الصلاحية، إلى برودة التساؤل والتشكك، وإعادة تكوين صورة العالم في أذهانهم وفق أسس جديدة، فعظمة الشعوب قبل أن تتجسد في إنجازاتها، تتجلى في عمق تساؤلاتها.
تعني العلمانية أن ترفض السير على غير هدى العقل والمنطق، وألا تصدق إلا ما يجتاز بنجاح اختبارات للتكذيب. فما لا يمكن إدراكه والتأكد منه بالأحاسيس البشرية، لا يمكن بأي حال أن يكون مؤثراً في حياتك، حتى بافتراض وجود حقيقي له. وقد أخطأ ديكارت حين قال quot;أنا أفكر إذن أنا موجودquot;، وكان الأجدر به أن يقول quot;أنا أفعل إذن أنا موجودquot;، كما أنه ليس صحيحاً أنه quot;في البدء كانت الكلمةquot;، فالحقيقة أنه quot;في البدء كان الفعلquot;، فلا ينبغي علينا أن quot;نفتش الكتبquot;، لأننا قلما نجد فيها ما يصلح ويفيد، لكن الأجدر أن نراقب الحياة وننخرط فيها، لنكتشف بأنفسنا ما نحتاج إليه من حقائق للسيطرة عليها.
رغم أن اختراع الكتابة قفز بالفكر الإنساني إلى أبعاد غير مسبوقة، إلا أن استخدام الكتابة لا يؤدي تلقائياً، لتحويل quot;العقلية الشفاهيةquot; إلى quot;عقلية كتابيةquot;، قادرة على توظيف ما تتيحه الكتابة من إمكانيات. quot;العقلية الشفاهيةquot; حين تستخدم الكتابة، تكون عرضة للتجمد عبر تدوين النصوص، التي تشكل حكمة الأجيال السابقة، بينما quot;العقلية الكتابيةquot; هي القادرة على تفعيل دور العقل، عبر استخدام ما تتيحه الكتابة من تأمل وتدبر ومراجعة وتنقيح ونقد للأفكار الموروثة والمستحدثة. فلا يستحق ما نسميه quot;عقلquot; مفهومه المتعارف عليه، إلا إذا احتوى مصفاة ينقي بها ويفحص ويدقق، فلا يعود مجرد وعاء يحتفظ بما يلقى فيه.
الوعي الإنساني محكوم بما نسميه quot;عقلquot;، والعقل محكوم بما يختزنه من مواصفات عناصر الكون المادية، ومن علاقات تربط بينها، ويصنف quot;عقل مبدعquot;، إذا استطاع اكتشاف علاقات جديدة بين العناصر المادية، ينتج منها مكونات تفيد رحلة الإنسان الحضارية، ويصنف quot;عقل مجمدquot;، إذا اقتصرت وظيفته على اختزان علاقات وهمية ومستحيلة بين العناصر المادية، استطاع البعض إقناعه بها، تحت أي من المسميات.
في كون يشوبه النقص، ويسعى لتجاوزه بسنة التطور التي تبقي الأصلح، تأتي فكرة الكمال المطلق كأمنية أو حلم يمكن السعي باتجاهه ويستحيل الوصول إليه. فالانتظام في الكون ليس أكثر من جزء من ركام عشوائي هائل، والعقل الإنساني هو ما يستخلصه، محاولاً فرضه على سائر ما يحيط به من ظواهر طبيعية واجتماعية وخلافه، أو متوهماً وجود هذا النظام بصورة جوهرية. رغم أن عقل الإنسان هو ما يضفي على هذا الكون العشوائي الانتظام والجمال.
تقسيم الإنسان إلى quot;جسد وعقل وروحquot;، فكرة قديمة بائدة، ولم يتم التأكد إلا من وجود quot;جسدquot; فقط، وقد اكتسب أحد أعضائه وهو quot;المخquot;، القدرة على تخزين المعلومات وتحليلها، وتشكيل تصورات للعالم على أساسها. . يقول بولس الرسول متأثراً بالتقسيم الثلاثي للإنسان (جسد وعقل وروح): quot;لأن الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد. وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون (يقصد ما يريد العقل)quot; غل 5 : 17. . هذه المعركة والانشقاق الداخلي للذات الإنسانية أمر خطير، ويحتاج من يعانيه إلى علاج سيكولوجي. فالحقيقة أن quot;المخquot; لا يعمل منفصلاً عن باقي أعضاء الجسد الإنساني، وبالتالي فما نسمية quot;عقلquot;، ليس كما يتصور البعض قادراً دوماً على العمل وحيداً متجرداً، بمعزل عن معادلة الإنسان البيولوجية، إذ يندر أن يتحقق هذا الحياد التجريدي للعقل، خارج نطاق العلوم الرياضية والفيزيائية، ويصل تأثر quot;العقلquot; بالتكوين البيولوجي للإنسان مداه، عند دراسته للعلوم الإنسانية، لذا لم تصل هذه العلوم بعد، وربما لن تصل أبداً، إلى ذات دقة وإحكام العلوم الرياضية والطبيعية.
هناك معضلة في فهم طبيعة quot;الزمانquot; وquot;المكانquot; يواجهها عموم الناس، غير المتخصصين في الفيزياء والرياضيات الحديثة، ويترتب عليها تصورهم للمفهومين بصورة مطلقة، وكأن quot;الزمانquot; نهر دائم السريان، لا أول له ولا آخر، وكأن quot;للمكانquot; وجوداً مطلقاً ثابتاً. . ويترتب على هذه الرؤية أسئلة وجودية، أجهد الفلاسفة والكهنة أنفسهم على مدى العصور لتقديم إجابات لها، بدا بعضها علمياً فيزيقياً، وبدا الآخر غيبياً ميتافيزيقياً. . أصل المعضلة أن الإنسان في حدود مشاهدات حياته اليومية، لا يستطيع إلا أن يخرج بمفاهيم مطلقة لكل من quot;الزمانquot; وquot;المكانquot;. . وحدهم علماء الرياضيات والفيزياء في طورهما الأخير هم من خرجوا بمشاهدات وقياسات وحسابات، تشير لنسبية وارتباط كل من quot;الزمان وquot;المكانquot;، وأنه عند لحظة بداية تشكل الكون الذي نشغل نحن جزءاً ضئيلاً وتافهاً منه، كان كل من quot;الزمانquot; وquot;المكانquot; صفراً. ومن لحظة الصفر هذه حدث الانفجار الكبير، الذي تشكل بموجبه العالم. ويبحث العلماء الآن إن كان الكون بعد مرحلة تمدده الحالية، سيأخذ في التقلص، ليعود إلى نقطة الصفر ذاتها، فيتوقف quot;الزمانquot; وينعدم quot;المكانquot;. فأصل الكون ومصيره لا تحددهما المشاهدات والقياسات المأخوذة من الحياة اليومية، وإنما تحددها قياسات المستوى الكبير Macro لدراسة أنحاء الكون فيما وراء مجرة درب التبانة، ودراسات المستوى الصغير Micro لفحص التركيب الداخلي للذرات. . الفلاسفة والكهنة يمتنعون.
من أهم فعاليات العقل الإنساني، اكتشاف العلاقة بين quot;العلةquot; وquot;المعلولquot;، أو بين quot;الأسبابquot; وquot;النتائجquot;، والتي هي الخطوة الأولى، لكي يتمكن الإنسان من التحكم في كافة مناحي حياته الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية. والفشل والتخلف هو المصير المحتوم لمن يفشل في ربط النتائج بأسبابها الحقيقية. . مثال من يسند النتائج المتحققة أو المرصودة في الواقع إلى أسباب خرافية أو ميتافيزيقية متوهمة. والناس في الشرق لديهم مشكلة في ربط النتائج بالأسباب، فبينهما في المخيلة منطقة ضحلة، تعيث فيها ديدان الخرافات، ويوم نجفف هذا المستنقع، لتحل محله الرؤية العلمية، عندها يمكن أن نعرف طريقنا نحو مستقبل مختلف.
كيف يمكن تحفيز quot;العقلquot; على العمل بكامل قدراته، وكيف يمكن تدريبه على العمل وفقاً للمناهج العلمية، وكيف تتغلب إرادتنا في تشغيله وتوظيفه، على نوازع الكسل العقلي والسيكولوجي، وكيف نطهر الوعي من حصوات اليقين، التي تسد قنوات التفكير العلمي الجريء؟. . كلها أسئلة تبحث عن إجابة، بقدر ما تبحث شعوبنا عن الطريق إلى حياة أفضل!!