مطلع الثمانينات كنت ضمن عشرات آلاف العراقيين الذين غادروا العراق لأسباب كثيرة، على رأسها الإضطهاد السياسي و العرقي و الحروب و التهجير. و دمشق التي يحكمها الجناح الآخر من حزب البعث، كانت أكثر ذكاء في تعاملها مع الكتاب و المطبوعات عموما، فكانت تسمح بالكتب التي لا تتفق مع منظومتها الفكرية، من باب عدم لفت الإنتباه و إثارة الضجيج و الأضواء، حول ما لا يعجبها من الأفكار، و الظهور بمظهر القوي غير المبالي، و ذلك بالسماح بها للتهوين من شأنها، و ليس بمصادرتها و اعتقال مقتنيها، أو إعدامهم، كما كان يفعل البعث الصدامي مع من يُعثَر في حوزته على كتاب شيوعي أو ديني، سيما كتب ( الصدر ) الأول و الذي استغلّ سنوات ( الجبهة الوطنية ) مع الشيوعيين العراقيين، للكشف عمّن يقتني الكتب الماركسية أو صحيفته العلنية ( طريق الشعب ). فكنت ترى الكتب الشيوعية و الدينية مبثوثة في مكتبات دمشق و بسطاتِ باعة كتب الرصيف. و حدث أن أشتريت كتابا أدبيا من إحدى هذه البسطات، فلفتَ نظري كراس صغير الحجم، مصفرّ الأوراق، بين أكداس الكتب. تبينتُ، بعد تفحّصهِ، أنه محاضرة لحردان التكريتي في الجزائر حول سلطة البعث في بغداد، و الكراس من ( إصدار جمعية الطلبة المسلمين عام 1970 م )

سألت البائع عن ثمنه، فقال: لدي الكثير منه ( خُدو عَلْ بيعة ! ). فكرتُ: ( بعد طرد حردان، اتجه الى الجزائر، لكن ماذا قال في الكراس، و هل هو مُلفّقٌ، ثم ما علاقة الطلبة المسلمين بالأمر؟!)

و كي أختصر الموضوع، أوجز لكم أهم ما جاء في الكراس: انقلاب 17 تموزمخطط له خارجيا، و أن البعث في العراق، يهيمن عليه البكر الدموي، و ينافسه من هو أكثر دموية منه بكثير ( صدام حسين ) و الذي سيؤول إليه الأمر في نهاية المطاف حتما، و بينهما صراع خفي، و لا يثق أحدهما بالآخر. و قد أتفقا مرة أن يقسما معا، على أن لا يتآمر أحدهما ضد الآخر و يغدر به، فقال البكر : نقسم عند مرقد ( الكيلاني )، فقال صدام: لا..هذا قليل الشأن ( ما ياكل !!). بعدها أتفقا على أن يُيَمّما شطر كربلاء، حيث أحفاد النبي، دون إبلاغ خدم المراقد بنيّتهما، و في كربلاء قال صدام: نقسم في مرقد الحسين، فرد البكر :لا.. هذا تمرّدَ على السلطة في زمنه، فاتفقا على القسم في مرقد العباس، و تم ذلك) طبعا صدام لحس قسمَه قيل مغادرة المرقد الى هنا و الكراس يوحي ( أن في الأمر خفةً و هُراءً ) و لكن ما أن تقدّمْتُ في القراءة، حتى وجدت ما يلي ( إن تدريبات الجيش العراقي، و المحاضرات و الدراسات الإسترتيجية، في الكلية العسكرية تكرس الحديث، و منذ سنين طوال، على أن العدو و العدوان سيأتي من الشرق ( ايران )، و أن صدام هو المنتصر حتما في الصراع مع البكر، و هو الذي سيقوم بالتحضير للحرب مع ايران و الحديث هنا عام سبعين. ثم يسهب في الحديث عن ( ايلول الأسود ) في الأردن عام سبعين بين الملك حسين و منظمة التحرير الفلسطينية، و عن شعوره ( حردان ) بالخجل من موقف حكومة البعث و القيادة القطرية من تلك الأحداث، و عدم وقوف الحكومة العراقية الى جانب الفلسطينيين، و هم يتعرضون للإبادة على يد الجيش الأردني، و عدم وصول أوامر من بغداد الى قطعات الجيش العراقي المرابط حول عمان، و التي كانت تحت قيادة حردان، تبلغهم بالتحرك لنصرة الفلسطينيين. مما حدا بحردان الى إلإبراق الى بغداد حاثّاً اياها على التحرك السريع. فوصلته برقية مستعجلة من بغداد تأمره بالتوجه فورا الى بغداد. و هناك جرى توبيخه و تعنيفه من قبل قيادته، و تجريده من مناصبه، و طرده خارج العراق، صوب الجزائر. و نعرف أن حردان أغتيل في الكويت مطلع عام 71 قرب المستشفى الأميري فيها، حيث كان في ضيافة الشيخ ( سعد الصباح ). و في دمشق كانت المنظمات الفلسطينية قد استقرت بعد عدوان اسرائيل على لبنان عام 1982، و عثر كثير من الصحفيين العراقيين على أعمال في صحافتها، كما كان الأمر في بيروت. تعرفت حينها الى شخصية عراقية مناضلة، تتولى عضوية اللجنة المركزية لشؤون الإعلام في الجبهة الشعبية القيادة العامة،هي ( ابو سيف ) سمير الهاشمي، الذي كان قد فرّ من سجن الحلة مع مظفر النواب، في حادثة النفق الشهير، و التحق بعدها بصفوف المقاومة الفلسطينية. فعرضتُ الكراس عليه،و بدا عليه عدم الأكتراث، و هو يقرأ صفحاته الأولى، كما حصل لي، و لكنه بدا منغمسا و مهتما و هو يقرأ حديث حردان عن موقف القوات العراقية ابان أحداث ( ايلول الأسود ). فهرع بالكراس الى فضل شرورو ( أمين سر المكتب السياسي في الجبهة )فاتصل الأخير بجهة أعلى منه، فكان الجواب: إن الكراس صحيح، رغم الغموض الذي يلف الجهة الحقيقية التي أصدرته، و أن هناك اعتقادا بأن الكراس، كان أحد اسباب إغتياله،و أنهم لا يمكنهم نشر الكراس في مجلتهم ( الى الأمام )، كون علاقة الجبهة ببغداد مرتبكة، و لا يودون زيادتها أرتباكاً. و بالتالي التحق حردان بمصير حديدان، الذي لم يبق غيره في الميدان.