لا نقصد بالتنوير عصرا فكريا معينا في أوروبا، لأننا نذرك أن لكل عصر تنويره الخاص به فتلك سنة من سنن التاريخ، ولا بد أن نميز بين التنوير كحقبة تاريخية عاشتها أوروبا، والتي تزامنت مع ما بلغه الفكر الإنساني من تشييد لصرحه على مكتشفات العلوم، وإخضاع جميع المسلمات والأفكار المسبقة لنقد العقل. فقد كان التنوير في هذه الحقبة ضد الجهل والخرافة والعقائد الشائعة والأحكام المسبقة، وكان أيضا إنارة لظلمة النفوس والعقول بواسطة التفكير المنطقي والعلمي. ويحدد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط التنوير قائلا: quot;إنه خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه من خلال عدم استخدامه لعقله إلا بالتوجيه من إنسان آخرquot;، إنها نهاية الوصاية وبداية التعقل، حيث أضحى كل شيء خاضعا لأحكام العقل بما في ذلك الدين والأعراف السائدة.

لقد صار العقل منذ هذه الفترة مرجعا في الفكر التنويري للحكم على الأشياء والأفكار، وهو ما حدى بفولتير في كتابه quot;رسالة في التسامحquot; إلى القول تعبيرا عن ذلك: quot;إذا كان هناك بعض المجذوبين خارج المدينة، فهم أشبه بالقمل الذي لا يصيب إلا أكثر الناس دناءة. إن العقل ينتشر يوميا في فرنسا، يدخل حوانيت التجار مثلما تفتح له أبواب القصور. والمطلوب هو العناية بجني ثمار العقلquot;.
كانت مرجعية العقل إذن وسيلة بواسطتها تم تحرير الإنسان، وفك أسره من محاولات فرض الوصاية عليه باعتباره قاصرا؛ إزاء الطبيعة (الوجود) من جهة، وإزاء الإنسان (الآخر) من جهة أخرى. وعملت هذه المرجعية على جعل الإنسان أولوية الأولويات في الفكر التنويري، بوصفه خطابا من الإنسان وإلى الإنسان، فأضحت أولويته قبل أي شيء آخر؛ بما يتفرع عن ذلك من قضايا وقيم ورؤى وآليات بها يحاول الإنسان تحقيق ذاته.
كان شعار التنويريين quot;تجرأ على استخدام عقلك الخاصquot; إقرارا بإنسانية الإنسان وإعلاء لمرجعية العقل وإلغاء لمختلف المرجعيات المسبقة. بيد أن هذا الفكر ما فك ينسلخ عن مساره بفعل بهلوانيات مدرسة ما بعد الحداثة التي تعتبر تراكمات فلاسفة الأنوار مجرد خطاب تبريري لقمع وقهر وتسلط الدولة. وعملت بالموازاة على تفكيك مقومات الحداثة، وإلغاء مركزية الإنسان وتشيئه، بل واعتباره جزء من التاريخ والطبيعة لا أقل ولا أكثر دون أن تكون له أي قيمة في ذاته.
في ثمانيات القرن الماضي شهدت فرنسا مهد المدرسة الشكية ولادة اتجاه فكري يقدم قراءة نقدية لحصيلة فلاسفة الستينات، ويتهم هذه المدرسة بالانحراف عن مسار التنوير وتنفير الناس من التفكير الفلسفي. وقد سعي هذا تيار quot;الفلاسفة الجددquot; الذي يطلق على نفسه quot;التنويريون الجددquot; إلى استيعاب وتجاوز فلاسفة الستينات بالعودة إلى أصول التنوير مع الآباء المؤسسين له. ويلخص الباحث تركي التركي مشروع هؤلاء في quot;ضرورة تبسيط الفلسفة وتقديمها من خلال لغة بسيطة واضحة من السهل فهمها من طرف جمهور غير متخصص. ثم البحث عن قنوات ووسائل إعلامية لنشر الفكر الفلسفي ذي الطابع التنويري، وتقريبه من الجمهور العامquot;.
وهذا ما يظهر جليا في أعمال ومؤلفات واحد من أبرز رواد جيل quot;الفلاسفة الجددquot; وهو الفيلسوف لوك فيري الذي فضل أن يروي لقرائه تاريخ الفلسفة في مؤلف يحمل عنوان quot;تعلم الحياةquot; بأسلوب تعليمي مميز سرعان ما يسلب لب قارئه بعيدا عن تركيب لغة المابعديات في فلسفة التفكيك، وعلى نفس الشاكلة جاء أخر مؤلفاته بعنوان quot;ثورة الحبquot; الذي ما يزال يصنع الحدث في المشهد الفكري الفرنسي.
ليظل بذلك هؤلاء محط تقدير واهتمام كبيرين من قبل القراء بسبب أسلوبهم القائم على التبسيط وقبول التراكم والحرص على الأنسنة بالتأكيد على مركزية الإنسان في هذه الحياة، وهذا ما جعل فلسفتهم تتوجه إليه بمختلف مستوياتها. بل ووصل الأمر بباسكال بروكنز إلى أن جعل هذه المركزية عنوانا فرعيا لأحد مؤلفاته quot;التعصب بفكرة نهاية العالم: إنقاذ الأرض ومعاقبة الإنسانquot;.
إن عودة هؤلاء إلى الفكر التنويري بمثابة إعادة تأسيس لأنوار من خلال الاحتفاظ بالمورث بعد إخضاعه للفحص النقدي، وبهذا الصنيع لن يخون هؤلاء الأنوار وإنما على العكس من ذلك سوف يبقون أوفياء لها.
كاتب مغربي