عَقد من الزمن مَرَعلى سقوط الدكتاتورية في العراق وإنهاء أعتى الأنظمة الشمولية شراسة وفسادآ، لكن السؤال الكبير الذي يبقى يطرح نفسه بقوة هو هل تَغَير شيئ في العراق؟ وهو سؤال يقودنا مباشرة الى مصطلح الدولة العميقة والذي يُشَبههُ البعض بنظرية المؤامرة، حيث أغفله الكثير من الكتاب والمثقفين والنخب السياسية والفكرية العراقية، وأول ظهور لهذا المصطلح هو في تركيا في سبعينيات القرن المنصرم، وقد فَهِم الأتراك آنذاك إن هذا المصطلح هو عبارة عن تحالف بين قادة الجيش الذين كانت لهم اليد الطولى في رسم سياسات تركيا الداخلية والخارجيةمتحالفين مع جهاز القضاء وبعض النخب السياسية والنقابية وبعض المنظمات المدنية الشبابية علاوة على بعض التجار وهؤلاء يشكلون منظومة تربط بينها مصالح مشتركة وإمتيازات كثيرة تجعل من هذه الشبكة تمسك بمقدرات البلاد وترفض التغيير الذي لا يتناسب مع مصالح هذه المنظومة، وخلال الأحداث التي جرت في بعض البلدان العربية والتي سميت بثورات الربيع العربي وخاصة ما جرى في مصر بعد سقوط نظام حسني مبارك طفا هذا المصطلح على السطح من جديد وتم تداوله بقوة خلال الثورة المصرية وبعدها، وركزت عليه جماعة الإخوان المسلمين خلال حكم الرئيس الإخواني محمدمرسي عندما أرادت تصفية الكثير من خصومها والإمساك بكل مفاصل الدولة ( في حق كان يراد به باطل).
وبالنسبة للعراق الذي هو عنوان مقالنا وموضوع بحثنا حيث تتجسد في هذا البلد مفهوم الدولة العميقة بأبشع صورها، وتعمل في كثير من الأحيان تحت غطاء الدولة، تراها،وتشعر بها، وتحس بوجودها في كل مَفصل من مَفاصل الدولة العراقية الحديثة بعد التغيير فهي قوة منظمة أصبحت تمتلك القدرة على صناعة القرار السياسي أو على الأقل التأثير فيه من خلال أذرعها في الدولة ونفوذها بين بعض فئات المجتمع، فهي شبكة مترابطة عمودها الأساس بقايا فلول نظام البعث والمرتبطين به من الذين فقدوا إمتيازاتهم الغير مشروعة، وهم بعض من التجار،وبعض شيوخ العشائر، إضافةلأفراد وعناصر الدوائر الأمنية القمعية المنحلة، حتى بعض الموظفين الذين لا زالوا يديرون وظائفهم وفق السياقات السابقة المترهلة وبنَفَس بعثي يُثير الإشمئزاز،علاوة على بعض الطائفيين وبعض القوميين الذين دغدغ البعث مشاعرهم عندما كان يرفع شعارات تتناسب والمزاج الشعبي العام لكل مرحلة، ولا ننسى بعض القادة السياسيين المشاركين في إدارة الدولة الجديدة لكنهم ينتمون الى الدولة العميقة فكرآ وعقيدة.
إن من أهم أهداف هذه المنظومة السرية أو الدولة العميقة التي ليس بالضرورة أن تكون مهيكلة أو لها مركزية موحدة، هو العمل على تأليب الرأي العام ضد النظام السياسي الديمقراطي الجديد في العراق، وإشاعة الفوضى، وعدم الأستقرار وتذكير الناس بمميزات النظام السابق وقدرته على حفظ الأمن، وبث الدعايات المغرضة والإشاعات الكاذبة عن حالات فساد في الغالب هم من يقومون بها ويشجعون عليها، وليس ببعيد عن هؤلاء العمل على ترسيخ الروتين والبيروقراطية في دوائر الدولة التي لازال هؤلاء يمسكون في أغلب مفاصلها لجعل حالة التذمر والنقمة على النظام الجديدتصل الى أعلى مدياتها بين المواطنين وقد نجحوا في ذلك. لقد سقط رأس النظام لكن جذور قاعدته المتمثلة بدولته العميقة لم تسقط، بل أصبحت كالأخطبوط لها أذرع مُخَرِبة في كل مكان ولن يهدأ لها بال حتى تصل الى مبتغاها وهو العودة مرة أخرى الى السلطة بصورة علنية، إن أنجع الطرق لمكافحة هذه الدولة العميقة هو مواجهتها بكل قوة والقضاء عليها، فالواجب الأخلاقي والوطني هو أن تتكاتف جميع الجهود الخيرة المتطلعة الى بناء دولة القانون والمؤسسات في مكافحة الدولة العميقة التي تحكم العراق بشكل غير مرئي،وتعبث بأمنه وإستقراره، وتقتل أبناءه،وعلى الدولةالبدء بإعادة وتفعيل قانون إجتثاث البعث،وإصدار مذكرات إلقاء قبض وإحضار لكل من يمجد الطاغية ونظامه المقبور مهما كانت وظيفته أو مركزه الإجتماعي فالعدالة تقتضي أن يطبق القانون على الجميع بدون إستثناءات،والقيام بتطهير دوائر الدولة من كل المفسدين والفاسدين والعابثين بالمال العام، وفصل وتسريح كل من يحاول ترسيخ البيروقراطية المقيتة التي تضر بالمواطنين وتجعلهم في حالة تذمر دائم عند مراجعتهم لدوائر الدولة ومؤسساتها، وليعلم الذين يديرون السلطة الآن في العراق، إن الإنتخابات على الأبواب وشعبية هذه الأحزاب الحاكمة آخذة في التآكلنتيجة للكثير من الأخطاء التي وقعت بها وتباطأت عن إصلاحها وأهم هذه الأخطاء وأخطرها هو التغاضي أو حتى التقاعس عن مكافحة دولة البعث العميقة وأدواتها، وإقتلاع جذورها.