لن يزور قبر المرحوم محمد البوعزيزي الكثير من الأشخاص هذه السنة. فإسم الشهيد الأول للثورة التونسية لم يعد يتداول بكثرة في أفواه الناس. ثلاث سنوات فحسب كانت كافية حتى تتحول الثورة من حراك اجتماعي ديناميكي إلى مجرد أثر تاريخي يتم الرجوع اليه فقط للذكرى. لا أحد تخيل أن تأفل نيران الثورة بسهولة بينما جميع الأهداف التي من أجلها قامت ما تزال تنتظر التحقيق على أرض الواقع.

لنحدد المسؤوليات. لقد عمت الغبطة جميع التونسيين باجراء أول انتخابات كانت شفافة ونزيهة وحرة في تاريخهم. ابتهجوا لكونهم سيكونون سيدي مصيرهم للمرة الأولى منذ استقلال البلاد. ولعمري يعد هذا أبرز المكاسب التي يستحق كل تونسي الافتخار بها. لكن نتوقف لهنيهة. لماذا ينحصر اعتبار النظام الديمقراطي فقط على مجرد اجراءات شكلية تقتصر على اجراء انتخابات دورية يتداول اثرها الناس على السلطة؟ ألا تنشأ الأنظمة الديمقراطية في ظل المجتمعات المتشبعة بالقيم الديمقراطية دون سواها؟ ألا يشترط تأسس الوعي الجماعي الديمقراطي ضرورة وجود أرضية اجتماعية تتجذر فيها علاقات المواطنة بين الأفراد؟ فلنفكر قليل للحظات ليستحضر كل واحد منا رصيد الأمثلة التي اعترضته أثناء مسار حياته والتي تكشف غياب تلك القيم واضمحلال تلك العلاقات.
المجتمع التونسي لم يكن أبدا ديمقراطيا بين ثناياه. هو مجتمع أبوي وباطرياركي بإمتياز، تنتصر فيه وشائج الجهويات والروابط الدموية. فتتوفر كل أشكال المحسوبية والزبونية والوصولية مستغلة انتفاء علائق المواطنة التي من المفترض أن تربط بين أبناء الجنسية الواحدة. لم يحكم بورقيبة وبن علي من عدم. لقد وجدا استعدادا لتقبل الاستبداد لدى المجتمع، المستبد بطبعه. بن علي لم يكن سوى تجسيدا للأنا التونسية؛ الأنا الانتهازية والأنانية والفردانية المقيتة. الأنا التي تأثرت بمحيط فكري تسلطي راكم منذ عدة قرون أدبيات ونظريات وفلسفات تؤسس لثقافة الخضوع للغير (أكان فردا أم قبيلة أو عشيرة أم نظام سياسيا).
هل اختفى هذا المجتمع بسرعة بمجرد فرار من كان على رأس السلطة؟ المجتمع الذي أنجب حكام تونس السابقين ألا يمتلك القدرة على انجاب مستبدين جدد؟ لا يعتقد عاقل أن التونسيين تحولوا بقدرة ساحر الى ديمقراطيين عن بكرة أبيهم.
كما من المفروض أن الطبقة السياسية لا تولد الا من رحم المجتمع واليه تعود. تُمارس ما يُمارسونه وتعتقد فيما يعتقدون فيه. ليس التجمعيين السابقين فئة اجتماعية منعزلة عن الآخرين. وليس حكام تونس الجدد أناس منفصلين عنهم كذلك. فهم كليهما نتاج لوعينا الاجتماعي السائد، وما لم يتغير هذا الوعي بشكل جذري، فإن عودة تجمعيين بوجوه جدد هي أكثر من فرضية محتملة.
إن المجتمعات تفضل بطبعها الهدوء والسكينة على الاضطراب والثورة. فالقوى المناصرة للاستقرار تغلب دائما تلك المجموعات التي ترنو نحو التغيير السريع والفجئي. وما يجب التشديد عليه أن ما تحقق اليوم من هامش واسع من الحرية لا يُعتبر مكسبا مقدسا قد لا يقع التراجع عنه. انصتوا قليلا من حولكم وستستمعون الى الأصوات التي ترتفع مطالبة بالحد من الحريات العامة والفردية وبالتقليص منها. إنه تحدي يحثنا على الانخراط في دفع تلك القوى إلى الايمان أن الاستقرار المزيف لا يخدم مصلحة المجتمع وأن الحرية قادرة على أن تحقق المنفعة للجميع. فلنحتفل في ذكرى 14 ديسمبر بما تحقق منها ولنعمل على نشر الوعي بها في كل مكان. فذلك أقل ما يُمكن أن نقدمه إلى محمد البوعزيزي.
* صحفي من تونس