quot;لن يقول الناس كانت الأزمنة رديئة

ولكن سيقولون: لماذا صمت الشعراءquot; (برتولد بريخت)
أن تكون منذورا للثورة والحرية والغناء، يعني أن تلاقي الهاوية ؛ فـ(الشعراء أقدامهم تلاقي الهاوية) كما قال الشاعر الألماني الكبير هولدرلين، ذات مرة. لم يكن الغناء بالنسبة لأيقونة الثورة الارترية الفنان الكبير ادريس محمد علي (الذي يقبع اليوم سجينا في نظام دكتاتور إرتريا أسياس أفورقي) مجرد أداء لحني للكلمات بل كان الغناء بالنسبة لذلك الفنان ــ بحسب ثقافته ولغته السامية القديمة (لغة التقري) ــ مزيجا عذبا ومركبا من التأليف واللحن والأداء. هكذا انخرط الفنان الكبير ادريس محمد علي في الثورة الإرترية بغنائه العذب وعبقريته المتفردة. لقد كانت أغنياته صورة ملهمة وحزينة للوطن الأسير تحت نير الاحتلال الأثيوبي ؛ لهذا ضخت تلك الأغنيات برمزيتها ومجازاتها روحا عاتية في نفوس الثوار وكانت كأشغال السحر التي أشعلت في ضميرهم جذوة النضال. كان ادريس فنانا شاملا وقف بين ثقافتين ليختبر ألحانه بغناء نادر وذائقة متنقلة شكلت العربية الحديثة فيها نموذجا متناغما وتوأما لتلك التجربة الغنائية الفريدة إلى جوار لغة (التقري) المحلية لسكان السواحل في إرتريا وشرق السودان. ولدت التجربة الفنية والغنائية لـ(إدريس) داخل التجربة النضالية، لكن انفتاح الثورة الإرترية على الأفق الوطني منحه قدرة على التجديد وهامشا فريدا للغناء بحداثة جعلت منه أحد كبار آباء الأغنية الحديثة في لغة (التقري) واللغة العربية بإرتريا.
في أتون الثورة الإرترية وحريقها النضالي الكبير لأكثر من ثلاثين سنة، كان على (إدريس) أن يغني فأبدع غنائيات فريدة دمج عبرها تأويلا فنيا عميقا لألحان صدحت بين لغتين ؛ مزج فيها الحب بالثورة، والوطن بالأنثى، والحرية بالغناء، فشكل بذلك الأقنوم الفني وجدانا للثورة الإرترية وذائقة متجددة للأجيال التي جعلت من أغنياته في المنفى وطنا لها مستعادا في الفن بموازاة الوطن السليب.
عاش ادريس حياته للفن والنضال فهاجر للسودان ليكون قريبا من الحراك الثوري الإرتري الذي كان السودان قاعدة انطلاقه الكبرى. وفي السودان مارس تجريبا فنيا تأثر فيه بالغناء السوداني واتصل ببعض كبار فناني السودان من أمثال الفنان السوداني الكبير(حسن خليفه العطبراوي) الذي تعلم (ادريسُ) على يديه بعض فنون العزف في ستينات القرن الماضي، لينطلق، بعد ذلك، بإرادة فنية خلاقة محلقا في سماء الثورة بكلماته الملهمة والشجية، وألحانه العبقرية الخالدة ؛ ومعبرا عن أعمق وأصفى المشاعر الوطنية للإرتريين تجاه وطنهم الأسير.
لقد كان طاقة الألحان في غنائه قوة هائلة للمنطق النضالي إلى جانب قوة التعبير في الكلمات الوطنية والرمزية التي نفث عبرها مزيجا شفافا للشوق والحنين إلى الحرية والوطن والجمال.
كان إدريس قلب الحرية في الغناء وروح الفن في الكلمات ؛ كان ضميرا أبيض للنضال ؛ فقد ألهم بغنائه جميع فصائل الثورة الإرترية ؛ بل كان أكبر من مجرد فنان حين ارتاد بلغته آفاقا حديثة للتجريب الغنائي شكلت فيه روحية الوطن مرجعية للإبداع، عبر لونيات جديدة وألحان مزجت التقليد بالتجريب والحداثة بالتراث، وضخت في تلك اللغة مفردات لوطنية معاصرة من داخل خزينها اللغوي المفعم بالاستعارات والجماليات الخاصة بها كأغنى لغة للخيال والجمال في إرتريا. خلق الفنان ادريس محمد علي بحساسيته الغنائية المتفردة أصواتا وإيقاعات نادرة ليس فقط لجهة اختلاف اللغتين اللتين أبدع فيهما فنه العظيم، بل كذلك لجهة الألحان التي شكل اختلافها الإيقاعي واللحني فرادة لموهبتة الموسيقية، مجسدا بذلك أقنوما للغناء على تخوم لغتين كبيرتين، ومعبرا أصدق تعبير عن الطبيعة الإنسانية العابرة للفن حين غنى وحلم لشعبه بتينك اللغتين.
كانت ايقاعات الريقي ذات المهد الأفريقي العريق تمنحه طاقة تحررية عالية ومزاجا ثوريا متوثبا نحو الحرية التي غنى لها إدريس ثلاثين عاما من عمر الثورة الإرترية لينالها وطنه في العام 1991م.
لكن التناقضات بين الحرية التي ناضل من أجلها الفنان، والنظام القمعي للجبهة الشعبية بقيادة أسياس أفورقي وضعت أمامه اختبارا جديدا لمسار الحرية جعله يواجه ظلما آخر بصوته الذي لم يعرف غير تلك الحرية حين تبددت أحلامها، وضاقت آفاق الوطن لتصبح سجنا للفنان بسبب مواقفه الحرة في مواجهة الدكتاتور الذي حاول أن يسكته بالسجن، ناسيا أن أغنيات الفنان أطول عمرا من ظله الزائل. واليوم إذ لا يزال فنان إرتريا وملهم ثورتها قابعا في السجن منذ 7 سنوات تعرض خلالها لأبشع أنواع التعذيب، والأذى الجسدي من قبل النظام الإرتري دون أن يعرف أحد ما إذا كان حيا أو ميتا ؛ سيظل صوته يتسلل من وراء القضبان إلى شعبه في كل مكان، متماهيا مع كلمات إحدى أغنياته الوطنية : (أغلى ما أملك ياوطني مهرا لعيون الحرية). الحرية للفنان إدريس محمد علي والعار للديكتاتورية.