منذ صدور كتاب المرزوقي الأسود وجانب هام من الرأي العام الوطني مجمع على أن حكامه الجدد غرباء عن تونس، لا يعرفون خباياها وهم أبعد ما يكون عن معرفة ميول شعبها وأهوائه. فهم لا يعرفون ماذا يمثل فريق الترجي الرياضي التونسي (الذي تهجم عليه المرزوقي في كتابه) في quot;الحاضرةquot; (مدينة تونس العاصمة) التي تأسس فيها ونما وترعرع، وحتى في quot;الآفاقquot; (المناطق الداخلية في البلاد) التي اكتسب فيها شعبية لا يستهان بها. ولا النادي الإفريقي الذي استهدفوا رئيسه في وقت سابق رغم حجمه الجماهيري الذي يعتبره البعض شعبا مستقلا بذاته، ولا الصفاقسي الذي شرف البلاد في الماضي القريب، كعادته، فلم يجد غير النكران والجحود ولم يكلف أي مسؤول حكومي نفسه عناء التدخل لدى الرابطة لبرمجة لقاء الدربي الذي يجمع الترجي بالأفريقي في توقيت غير توقيت مباراته مع مازمبي الكنغولي في نهائي كأس الإتحاد الأفريقي، خاصة وأن الصفاقسي يرفع راية تونسية ويحمل آمال شعب أدمته الخطوب والخيبات.
فالترجي والصفاقسي والإفريقي والنجم والملعب التونسي والبنزرتي وغيرها من النوادي الرياضية هي صروح وطنية ساهمت وتساهم في بناء هذا الوطن من خلال رعاية شبانه، وبث الروح الوطنية فيهم، وجعلهم سفراء في المحافل الدولية يذودون عن رايته. ويدرك القاصي والداني الدور الذي لعبته هذه الجمعيات الرياضية في مسيرة الإستقلال وفي تخريج المناضلين وبناة هذه الدولة. فلا يجوز بأي حال من الأحوال المساس بها وتضمينها لا في الكتب السوداء ولا الحمراء ولا الصفراء، ولا استهداف رؤسائها ومسيريها إلا إذا كان هناك خرقا فادحا لقوانين البلاد لا يمكن السكوت عنه، ولا يخال المرء أن ما أقدمت عليه الجمعيات الرياضية خلال العهد السابق يرقى إلى مستوى الخرق الفادح لقوانين البلاد. فلا القوانين الحالية تجرمه ولا ما يمكن أن يتم تشريعه مستقبلا سيعود عليه بمفعول رجعي.
فإذا كانت جمعية الترجي التي ذكرت دون غيرها في كتاب المرزوقي - ولأسباب جهوية بحتة بحسب تأكيدات البعض - بوق دعاية لبن علي فماذا عن وسائل الإعلام البديل والمتعاملين مع النظام الحالي الذي لا يحوز على رضا جانب معتبر من التونسيين؟ أليست بدورها أبواق دعاية للنظام الإخواني الجديد وتقوم في نظر الكثيرين بالتغطية على جرائمه وتلميع صورته؟ أفلا تجوز محاسبة جميع الأبواق الدعائية خلال العهدين؟
ولا تقتصر غُربة حكامنا الجدد وجهلهم بالواقع التونسي على استهداف رموز البلاد سواء أكانوا جمعيات رياضية أو أبطال عالميين وأولمبيين أو كتاب أو مفكرين وإعلاميين وساسة، فحتى ما تجود به قرائحهم من مفردات، هي غريبة عن هذه الديار وأهلها ولا تمت لهم بصلة. ففي البداية أرادوا استبدال تسمية مجلس النواب بمجلس الشعب أسوة ببعض المشارقة وتأثرا بهم واهتدوا أخيرا إلى حل وسط تمثل في quot;مجلس نواب الشعبquot; للتعبير عن البرلمان في مشروع الدستور. ثم استهدفوا الرائد الرسمي مقتبسين عبارة quot;الجريدة الرسميةquot; من الإخوة المشارقة أيضا رغم عراقة الرائد التونسي وارتباطه بالموروث التشريعي والقانوني التونسي. وأخيرا جلبوا إلينا عبارة quot;أتاوةquot; مستعيضين بها عن الأداءات والضرائب، وأردفوها بـquot;الأوقافquot; التي درجنا نحن التونسيون أبناء هذه الأرض الخضراء ومنذ عقود على تسميتها quot;أحباساquot;.
لا ضير لهؤلاء في أن يكونوا قوما تُبَعًا، إيالة عثمانية أو ولاية تابعة لعاصمة مشرقية أو حتى مغاربية فهم لا يؤمنون بالذاتية التونسية ويمقتون رموزها. فنحن عرب ومسلمون ما في ذلك شك ولمن شاء أمازيغ ومغاربيون ومتوسطيون أيضا، لكننا بالنهاية تونسيون لنا ذاتيتنا التي لا يؤمنون، ورموزنا الذين يمقتون، ولسنا متلقين لثقافات وحضارات الآخرين ولسنا مستعدين للذوبان في كيان الآخر الذي نحترم. كانت لنا إسهاماتنا على مر التاريخ في الحضارة الإنسانية منذ العهد القرطاجي ناهيك أننا بادرنا قبل غيرنا بالإعلان عن فك ارتباطنا بالباب العالي في اسطنبول، والدائرة البيضاء في علمنا المفدى التي تميزه عن راية إمبراطورية بني عثمان التي توارثها الأتراك تقيم الدليل القاطع على هذا التمايز، حيث أرادها ملك البلاد حمودة باشا الحسيني تعبيرا على أن هناك كيانا يسمى تونس أو قرطاج أو إفريقية أو غيرها من التسميات، لا يمت بصلة لبلاد الترك وما يجمع بينه وبينهم فقط هو دين محمد (ص) فحافظ على الهلال والنجمة.
ولعل ما يشفع لإخوان تونس وتابعيهم ndash; بحسب البعض - هو غيابهم الطويل عن الأوطان الذي يبدو أنه ساهم في جعل واقع هذه البلاد عصيا عن الفهم والإدراك لديهم. فكان خطأ فادحا أن يتسلموا دواليب الدولة بمجرد عودتهم quot;الميمونةquot; إلى الديار، فعملية quot;التونسةquot; كتلك التي شهدتها بلادنا إبان فترة الإستقلال وطالت أجهزة الأمن والجيش والقضاء وغيره من القطاعات، كانت ضرورة بالنسبة إليهم يحققها اندماجهم بصورة تدريجية في الحياة العامة. وبذلك يصبح هؤلاء القوم من أبناء جلدتنا مؤهلين لقيادة البلاد (بعد خضوعهم أيضا لتكوين سياسي يفتقدونه بشهادة أحد قيادييهم)، حتى نتجنب حصول هذه الكوارث من قبيل الكتاب الأسود الذي أصدره رئيس البلاد quot;المفدىquot; في quot;عهدهم السعيدquot;.