لعل الدوافع التي جعلتني أحاول عبر هذه السطور تحديد ملامح الأرضية الفكرية والتحليلية التي يبني عليها الإعلامي السوري فيصل القاسم قراءاته ومواقفه، لا تقف عند كونه شخصية عربية مشهورة في سورية والعالم العربي وحسب،بل باعتباره بات واحدا من قادة الرأي العام العربي، ومن المؤثرين فيه، كيف لا، وقد بلغ،بالإضافة إلى البرنامج الذي يقدمه على قناة الجزيرة و يتابعه الملايين،عدد المعجبين بصفحته على الفيسبوك المليونين وثلاثمائة ألف، وهو عدد لم تتحصل عليه مؤسسات صحفية بكامل أطقمها وإصداراتها، رغم أن لبعضها تاريخ طويل وباع مميز في مخاطبة الشارع العربي.

ولمباشرة هذا الموضوع لا بد من استعراض بعض من كتاباته ومواقفه أولا ومن ثم تحليلها ومساءلتها ثانيا، وإن بتكثيف واختزال يستدعيهما ضيق المساحة التي تحتملها هذه المادة السريعة.

يكتب القاسم على صفحته في الفيسبوك في تواريخ متباينة ما يلي:(يبدو أن الشرق والغرب سعيدان جداً بدخول الجماعات السنية والشيعية المتشددة إلى سورية،فهي فرصة تاريخية لإدخال المنطقة في حرب مذهبية لعقود).1*.(مغفل من يعتقد أن أمريكا وإسرائيل يمكن أن تسحبا البساط من تحت أي زعيم قبل أن ينتهي من مهمته الموكلة إليه بشكل مباشر أو غير مباشر).2 * (لم يعد هناك أدنى شك بأن الشرق والغرب على حد سواء له مصلحة كبرى فيما يحدث في سورية من خراب ودمار،وإلا لكان وضع حداً له بين ليلة وضحاها).3*.(هل حدث في التاريخ أن القاضي أمر بإطلاق سراح المجرم لمجرد أنه سلم سلاحه الذي قتل به الناس؟ ألا يدفع ذلك المجرم إلى الاستمرار بالقتل بسلاح جديد؟).4.*( الفرق بين الديكتاتوريات والديمقراطيات أن القمع الديكتاتوري يكون عنيفا، بينما يكون الديمقراطي إعلامياً لا يقل إيلاماً.).5*.

بمراجعة النبذة أعلاه يظهر فيصل القاسم متأرجحا بين وعي شعبوي مقطوع عن فهم رصين وعلمي للسياسة وبين تقمص نخبوي لما بعد الحداثة إنما مقطوعة عن جذورها الفكرية والاجتماعية الغربية. فحين يعتبر أن الغرب إنما يعد إشعال حرب مذهبية في سورية بمثابة فرصة تاريخية له، وحين يحيل سقوط نظام أو بقاء آخر إلى إنهاء مهمة الغرب الموكلة إليهما من عدمها، وحين يؤكد على أن لكل العالم، شرقه وغربه، مصلحة في تدمير وخراب سورية، يبرز الوجه الشعبوي لوعيه السياسي أيما بروز، ويظهر استبطان ذلك الوعي للأيدولوجيا البعثية التي لا ترى العالم الغربي إلا من زاوية المؤامرات على سورية والعرب، و كأنه يتحدث بلغة النظام السوري عن المؤامرة الكونية رغم أنه ينتمي إلى موقع معارض.

و لا يحتاج المرء الكثير من الجهد حتى يكشف عن ضعف وعي القاسم السياسي لا سيما حين شبه المجتمع الدولي بالقاضي الذي لم يعاقب النظام السوري لاستخدامه الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، فقط لأنه تخلى عن ترسانته من تلك الأسلحة. فذلك التشبيه يشي بعدم معرفته بالديناميات المؤثرة في العلاقات الدولية ولا بآليات صنع القرار في الدول الديمقراطية و بالتالي تفاعل تلك الدول في إطار النظام الدولي، و الحال أن النظام السوري، بإعلانه التخلي عن ترسانته الكيماوية بعد المجزرة الكيماوية التي ارتكبها ضد المدنيين في ريف دمشق في شهر آب من العام الجاري، تمكن من تعطيل دينامية في العلاقات الدولية وأصول النزاعات العسكرية كان من الممكن أن تستدعي تدخلا دوليا ضده، مستفيدا من الرأي العام الغربي الرافض لأي تدخل عسكري لدوله في سورية.

على أن المفارقة و الدهشة يثيرهما الرأي الذي يوضح فيه القاسم أن لا فرق حقيقي بين الأنظمة الديمقراطية و الديكتاتورية..! فالقمع الإعلامي في الأولى لا يقل عن المادي في الثانية.!، هذا الموقف ينتمي إلى مرحلة ما بعد الحداثة التي عصفت بالغرب منذ ستينات القرن الماضي، حيث جرت هناك عملية نقد قاسية لمنجزات الحداثة والعقلانية وصلت حدودا عبثية في معظم الأحيان، و ذلك بالإضافة إلى كونه مقطوعا عن المجال العربي الذي لم يعش عالم الحداثة حتى ينقده ويتجاوزه، يبدو متناقضا عن محل القاسم من الثورة السورية، بل يجعل موقفه من الحدث السوري عبثيا، فما مبرر الثورة التي يدعمها القاسم إذا كانت الأنظمة الديمقراطية لا تشكل بديلا أفضل عن الأنظمة المستبدة؟،وطالما القمع الإعلامي للديمقراطية لا يقل إيلاما عن قمع الاستبداد.!!!.

إذا كان ما سبق لا يقلل من السوية الأخلاقية العالية التي أظهرها القاسم في دعمه للثورة السورية وفي انحيازه للشعب السوري ضد نظامه المستبد، الأمر الذي يستحق تقدير كل سوري وعربي، إلا أنه يضيء جانبا خطرا من أزمة الوعي العام العربي التي يرفدها ويكرسها مثقفون وإعلاميون.

وحيثما بقي هؤلاء بعيدين عن تعاطي السياسة في بعدها العلمي، مستمرين في تحليلهم الأحداث والمواقف السياسية دون إدراك الأرضية التي تنشأ عليها والديناميات التي تنتجها والعوامل التي تقود إليها،ودون المعرفة بالأطراف الفاعلة في هذه الأحداث من حيث إراداتها وإمكاناتها وحدود رهاناتها، يزداد الخطر بتشكيل وعي عام زائف ومضلل، مغرق في السلبية والدوران حول الذات، ولا بد لتلافي ذلك من أن ينتبه الفاعلون في الرأي العام العربي إلى فخ التبسيط والتعميم، والى ألغام الفهم البدائي، الكسول،التطهري أو المؤامراتي للسياسة.فوعي سياسي بهذه السمات لا يعدو أن يصبح مقبرة للفاعلية وفشلا في تقصي الواقع المعقد وركونا لليأس وإيغالا في الغربة عن العالم، و لن يتم ذلك دون تجديد هؤلاء لبناهم الفكرية و ثقافتهم السياسية ودون انخراطهم في نقد المسلمات التي ركنوا إليها وشكلت النظام المعرفي السياسي المتحكم بمواقفهم وتحليلاتهم كلها.

1. من صفحة فيصل القاسم بتاريخ 7 كانون الأول 2013

2- من صفحة فيصل القاسم على الفيسبوك بتاريخ 6 كانون الأول 2013

3- من صفحة فيصل القاسم على الفيسبوك بتاريخ 6 كانون الأول 2013

4- من صفحة القاسم على الفيسبوك بتاريخ 9 أيلول سبتمبر 2013

5- من صفحة القاسم على الفيسبوك بتاريخ 23 تشرين الأول أكتوبر 2013

كاتب و عضو رابطة الصحفيين السوريين