الحراك في المنطقة مستمر، والحالات مختلفة، والعراقيل كبرى، داخلية وخارجية. الطريق نحو التغيير الديمقراطي مليء بالأشواك والمعوقات، لاسيما والحراك هو في بلدان لم تعرف الممارسة الديمقراطية الحقيقية. والملاحظ اندلاع الانتفاضات في الجمهوريات التي لم تأخذ من الجمهورية الديمقراطية غير الاسم واللافتة.
حراك دول الانتفاضات والثورات مستمر، سواء التي أنزلت السلطان من عرشه أو لم تستطع بعد. وهي جميعا مليئة بالدروس الجديرة بتأمل القوى والتيارات والشخصيات المدنية واللبرالية، المؤمنة حقا بالقيم الحداثية وحقوق الإنسان. ولعل الظاهرة الأكثر وضوحا وبروزا، وهي ظاهرة مشتركة، طغيان الدور السلبي والتخريبي للأصولية الإسلامية بجميع أشكالها ودرجاتها ومذاهبها. فالهوس الديني المنفلت يثير الكراهية ورفض الآخر ومعارضة الحوار ومبدأ المواطنة والمساواة. وما سمي بquot; المد الدينيquot;، لاسيما منذ انتصار الخمينية وتمددها في المنطقة وتعاونها مع أممية الإخوان ومع القاعدة، هو ما راح ينخر في جسد وروح الانتفاضات وما يهدد قوى الديمقراطية والإصلاح في بقية أرجاء المنطقة . والحقيقة أنه لا يمكن الانتقال نحو مستقبل ديمقراطي دون أصلاح جرئ وحاسم للتربية الدينية ومحاربة ثقافة العنف والموت باسم الجهاد وما شاكل. وهذا ما ينطبق على الجميع ومنهم دول الخليج. ومؤسف أن مصر في عهدها الانتقالي نفسه لا تزال موزعة حول موضوع العلاقة بين الدولة والدين، وهو ما يمسى بمعضلة quot; الهويةquot;، وما يتمثل في السجال الدستوري عن مرجعية الدستور، وإصرار السلفيين والأزهر والفئات السياسية المحافظة على زج الإسلام كمرجع أساسي للتشريع كما جرى قبلهم في العراق بعد سقوط النظام السابق، مع أن الدين لا يشكل هوية شعب بل هو مبدأ المواطنة والحقوق والواجبات المتساوية، خصوصا وثمة في بعض الدول، ومنها مصر،أركان هامة من الشعب هي غير مسلمة. ولابد من ذكر أن برامج التعليم العربية، من مطالعة وتعليم ديني وتاريخ، تغذي وتشجع ثقافة الموت والعنف والكراهية والتمييز بين المواطنين على أساس الدين والمذهب. أضف دور المساجد والفتاوى ودعاة العنف وكل المتلاعبين بالدين والمذهب والمتاجرين بهما.
كما أن الديمقراطية لا تبنى في مجتمع بنسبة عالية جدا من الأمية وبشارع تهيمن على شرائح واسعة منه خرافات وضغائن موروثة ودجل تجار الدين، وعقيدة quot; الأمة الإسلاميةquot;،التي تريد القفز على الانتماءات القومية والدينية. ولبناء الديمقراطية لابد من نخب سياسية بعيدة النظر وجريئة في النقد والنقد الذاتي، ولا تراعي العوام والغوغاء والفوضويين بحثا عن شعبية زائفة؛ نخب لها بوصلة سياسية مدروسة تمنع الانفصام بين المطالب والواقع ولا ترفض التنازلات عند الضرورة، وما يعنيه من حلول وسطى مؤقتة تفرضها موازين القوى والظروف. وحتى في مجتمعات متخلفة تستطيع الصفوة السياسية والفكرية، المتنورة والحكيمة والمضحية عند اللزوم، أن تلعب دورا إيجابيا نافذا في إضاءة الطريق للجماهير وتوضيح الأمور لها. وبالعكس، فإن نخبا سياسية وفكرية شعبوية وانتهازية ومتاجرة بالدين تزيد أمراض المجتمع وتركات النظام السابق سوءا على سوء، كما حدث ويحدث في العراق.
من جهة أخرى، وكما في مقالي الأول، فإن من غير الواقعي مقارنة انتفاضاتنا ومجتمعاتنا بدول الربيع الأوروبي الشرقي، قبل وبعد الثورات السلمية. ولا أيضا بأسبانيا وتشيلي زمن فرانكو وبينوشه وبعدهما، حيث أمكن، بعد وفاة فرانكو، الانتقال للديمقراطية مقابل قبول الجمهوريين ببقاء الملكية على أن تكون دستورية، وبقاء الحزب الفرانكوي بشرط أن يتحول لحزب برلماني. وهو ما جرى فعلا. وفي تشيلي حدث التحول الديمقراطي بعد استفتاء شعبي، وبضغوط داخلية وخارجية، وكان الثمن أن يبقى بينوشه على رأس الجيش عقدا من الزمن، ولكن دون أن يكون قادرا على انقلاب ردة، بل ودون رغبة منه في فعل ذلك. تلك ظروف خاصة، والصفوة السياسية المدنية جازفت ببعض التنازلات المهمة، ولكنها نجحت في إقامة ديمقراطية مستقرة. كما من المفيد ذكر أنه سبق الثورة الفرنسية ظهور مفكرين تنويريين شجعان أناروا الطريق، وأن الثورة حين قامت قدمت فعلا إنجازا تاريخيا بإعلان حقوق المواطنة والمواطن[ حقوق الإنسان]- أي وضعت حجر الأساس الذي لم تستطع هدمه الاضطرابات وفوضى السنوات التالية. والدول الشرقية الأوروبية عرفت ساسة مجربين من صميم الشعب، من أمثال إيش فاليزا وفاتسلاف هافل، وبتشجيع غروباتشوف والغرب. ونحن نفتقر اليوم لأمثال هذه الظروف المناسبة، بل العكس صحيح، سواء من تخلف المجتمع، وقصور الصفوة، والمحيط الذي تلعب فيه إيران دور اللاعب الأول، ومعها القاعدة والإخوان؛ أو من ظرف دولي عسير بسبب السياسات المراوغة والمريضة لإدارة أوباما في الانعطاف نحو إيران والإخوان، والصمت عن جرائم طاغية الشام وحزب الله وعن جرائم المالكي ومليشياته في العراق وسوريا، مع ترك الساحة الدولية لبوتين. وهذه العوامل الخارجية تلعب في الموضوع السوري أكثر مما في الحالات الأخرى، مما جعل الكارثة السورية تستمر وسط صمت دولي مرعب، ولكن دون تجاهل أخطاء المعارضة الديمقراطية وتعدد رؤوس الثورة. فالقمع الأسدي فاق كل تصور، والصمت الدولي أيضا.
إن التحولات الديمقراطية تقوم على أنقاض كراهية الآخر والنظرة الدونية للمرأة والانفصام بين المواقف والواقع، بالعكس من المرونة. وهي لا تقوم بنبذ كل الماضي بحجة أن حاكما مستبدا كان يحكمه، ولا باجتثاث كل من كانوا يعملون في أجهزة الدولة في عهده، ولا بسياسة ردود الفعل داخليا أو خارجيا. فمثلا كان يمكن الرد على سلبية تركيا من مصر بغير طرد سفيرها، وعلى سلبية أميركا بغير التوجه لبوتين، الذي يمارس في بلاده سياسة الاستبداد ويحلم بإمبراطورية روسية جديدة.
أخيرا، فإذا كانت التحولات الديمقراطية في البلدان العربية أمام تحديات كبرى وعراقيل كثيرة، فإن قوانين المجتمع والإرادات الخيرة والمثابرة والتضحيات الغالية ستفعل فعلها في نهاية المطاف، ومهما طال الطريق. وهذا قد يبدو قولا عاما وبديهة، ولكن قد يصطدمان بتعقيدات ومضاعفات وquot;ألغازquot; الوضع السوري، العصية [حتى الآن] على فهم أمثالي!!