لم يعد في عراق اليوم ما يبعث على الارتياح والأمل. فجيعة بعد أخرى والقادمات قد تؤدي للهاوية.
حكام العراق يبرهنون يوميا على فقدان كل بوصلة حكمة سياسية، وعلى الإصابة بأمراض اجتثاث الأخر، وخلق الأزمات المتعاقبات. والطائفية صارت العقلية والممارسات الشائعة من أعلى ولأسفل. وكما يكتب الأخ الأستاذ ضياء الشكرجي، فإن الشيعي، حتى المثقف[ غالبا] لم يعد يفكر إلا شيعيا والسني سنيا- مع استثناءات حميدة لحسن الحظ. وبدلا من ترك هوس الانتماء المذهبي في البيت أو المسجد والحسينية، فإنه يوجه الخطوات والمواقف اليومية وكأنها صارت البوصلة المستساغة والرائدة.
الجميع يبكي على الوطن، ويعلن الخوف على الوحدة الوطنية، ولكن الأقلية فقط من الساسة والمثقفين تتصرف بما يتفق مع هذا. والأخطر عندما يمارس ذلك من يتحكم بكل عتلات السلطة وحتى بالمؤسسات المفترض استقلاليتها، في حين يجري التباهي والرد على الناقد بوجود quot;شراكةquot; هي صورية واسمية لا غير. وبدلا من الإصاخة للشكاوى والمطالب، يأتي الرد بالرصاص.
لقد مرت على العراق والعراقيين أيام لم نعرف قدرها، وصرنا اليوم نادمين. فبغداد، التي توجد خطط رسمية لتغييرها ديموغرافيا، كانت ذات يوم نموذجا للتعايش الجميل بين المذاهب والأديان والقوميات والأجناس، وملتقى ما يبدو من مفارقات، كتجاور المسجد والملهى، ومراسيم عاشوراء وأفراح الأعياد والسينمات الراقية، وصدح الأغاني الغزلية بعد تلاوة القرآن الكريم. وفي اجتماعات تأبين شهداء وثبة كانون الثاني لعام 1948 كانت الوفود المسيحية والحاخامية تفد للمساجد ووفود الأعظمية تزور الكاظمية. وكان العراق حتى الستينات كخلية نحل بالنشاط الفني والأدبي والشعري. وعندما عين عبد الكريم قاسم العالم الكبير الصابئي المندائي، عبد الجبار عبد الله، مديرا لأول جامعة عراقية، لاقى التعيين استحسانا شعبيا واسعا. ويذكرنا كاتب [لم يتسن لي مع الأسف معرفة اسمه] بأيام كان العراقيون يصحون على صوت فيروز ويستمعون لبرنامج quot;أبو رزوقيquot; يعطي نصائح للسواق، ومساء حيرية حبيب وكامل الدباغ وعمو بدري؛ وإذ يتجاور في الإذاعة والتلفزيون علامة اللغة مصطفى جواد مع المفكر الكبير علي الوردي مع الموسيقى السيمفونية.
تلك أيام كان فيها المر والحلو، والمظلم والناصع، والأسود والأبيض، والمنغص والمسر، ومرت ما بينها فترات حشية دموية مع انقلاب 8 شباط الدموي. وقد كنا في العمل السياسي لا نرى غير الجوانب السلبية من أيام زمان المريحة، فنهاجم ونعارض لتأتي أيام أفضل، ولكن أخطاء الساسة لم تلد غير السئ والكالح المظلم، وصولا لعراق اليوم، المتجه نحو منزلقات التفتت والانشطار، واحتمالات الحروب الطائفية والعرقية، وتحول البلاد لساحة تصفية الحسابات الإقليمية والدولية وتقاسم النفوذ.
كم من ذكريات جميلة عن نهر دجلة بغداد، دجلة الخير، بزوارقه ونوارسه والشموع الطافية فوق أمواجه. وكم للفرات من أمجاد نضالية تمتزج بأمواج دجلة. العراق هو بلاد الرافدين، أو بلاد النهرين التوأمين Twin Rivers ، أو عراق الفراتين، والمفترض بمن يحكمون أن يحرصوا على ثرواتنا المائية والطبيعية، وأن يجابهوا بحزم من يعتدي على حقوقنا من دول الجوار، وان يعملوا لا للجيل الحالي وحسب بل وكذلك للأجيال المقبلة. ولكن حكام اليوم [ومعظم أطراف الطبقة السياسية] لم يعودوا يفكرون لا بمصالح شعبنا اليوم، ولا بمصالح شعب المستقبل. وتقول الدراسات العلمية، التي يستشهد بها الأستاذ علي بابان، وزير التخطيط السابق، إن الرافدين يكونان قد نضبا مع حلول 2040 ndash; وافجيعتاه!- في حين سيزداد عدد السكان أضعافا، وستتصدر المشاكل مسألةُ توزيع المياه والري وضمان إشباع البطون. وقد تندلع نزاعات مسلحة بسبب توزيع المياه.
صحيح أن المنطقة كلها دخلت نفقا مظلما، وحاضر وآفاق ما سمي ربيعا لا تسر، ونحن نعيش شتاءا ظلاميا إسلامويا، شيعيا وسنيا. ولكن هل في ذلك ما يعزينا عن حاضر العراق الرديء، واحتمالاته المستقبلية التي لا دليل حتى الآن على أن فيها احتمالات تسر؟!