اقترنت نشأة، وتبلور: وتطور الديمقراطيات الغربية، على مدى قرون، بخروج التعليم من قبضة الكنيسة، وحياديته الدينية والسياسية، وانحسار الأمية، ونمو المعرفة العلمية والفلسفية، والتطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وحين نقارن الانتخابات في الديمقراطيات العريقة بالانتخابات في الغالبية العظمى من دول quot; العالم الثالثquot;، ومنها دول quot; الربيع العربيquot; والعراق، يبرز الدور الإيجابي للتعليم والثقافة العامة، بالضد من الدور السلبي للامية والجهل وانتشار القيم البالية. ومن كتابنا من يقترحون قصر الانتخابات النيابية العربية أولا على المتعلمين الذين أكملوا على الأقل المرحلة الإعدادية الأولى [ متوسطة]. ولكن هذا يصطدم بمبدأ المساواة بين المواطنين. وفي الوقت نفسه، فليس التعليم وحده كافيا لدور المواطن إيجابيا، وإن كان أساسيا، فبين الإرهابيين الإسلاميين وقادتهم عدد كبير من خريجي الجامعات والاختصاصيين، كمهندسين وأطباء وأساتذة جامعيين، حيث الخلل في مكان آخر. ولكن الأمي والجاهل، وخصوصا عند الاقتران بالفقر، يجعل الشخص عرضة وفريسة سهلة للإغراءات والضغوط وغسل الدماغ، كما جرى في انتخابات مصر والعراق والبقية.

المنظمات التربوية الدولية وغير الدولية، والاختصاصيون التربويون البارزون يكادون يجمعون اليوم على أن هدف التعليم [ التربية] هو تنمية شخصية المواطن وتكوينه، منذ المراحل الأولى للدراسة، ليكون مواطنا فاعلا في المجتمع والحياة العامة، وليعزز التلاحم الاجتماعي، وليسهم- حسب مواهبه وميوله وقدراته- في الإثراء والعطاء. وللوصول لهذا الهدف التربوي الأسمى، لابد أن تكون مناهج التعليم ومفرداته وأساليبه [ المباشرة وغير المباشرة] موجهة لخدمة الهدف المنشود، وهو يتطلب منها أن تساعد على تكوين التلميذ، منذ التعليم الابتدائي [العام]، بروح قيم التسامح وقبول الآخر، والاستعداد للاختلاف في الرأي مع الاستعداد للاتفاق، وغرس حب المعرفة حتى بعد التخرج أو التخصص، وروح المساواة بين الجنسين، والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن الدين والعرق والمذهب. والمطلوب من المدرسة اكتشاف الميول والمواهب المختلفة للتلاميذ وتشجيعها، بعيدا عن منطلق النمطية باسم المساواة الشكلية، كما تمارس الأنظمة الشمولية والكثير من أطراف اليسار الغربي عندما تتولى الحكم. كما أنها تتطلب أن تساعد على روح الإيثار، بالعكس من الأنانية، وعلى شحذ الذاكرة والخيال. ورغم تقدم التعليم الفرنسي، بلد فولتير وأقرانه، فإن الحكومة رأت اليوم أن تدخل في مناهج الدراسة الأولى تدريس قيم العدالة والمساواة والحرية والإخاء.
إن مدارس تربي الجيل الناشئ بعبادة الماضي البعيد والتكلس عليه، والانكفاء على النفس بدلا من الانفتاح، أو النفخ في الغرور القومي، أو المشاعر الفئوية- من دينية ومذهبية وعرقية، أي بما يفرق بين المواطنين ويشجع الحزازات والهواجس والشكوك- غير مؤهلة لتخريج مواطنات ومواطنين يساهمون في الحياة العامة بدور بناء وفعال، وبذلك يخدمون المجتمع وأنفسهم؛ بل، إن هذه المدارس، بمناهجها المتخلفة، قد تخرج جيلا يظهر منهم المتطرفون والمهووسون بالعنف وبكراهية الآخر. إن مفردات تعليمية مثل quot; أمة واحدة ذات رسالة خالدةquot; تشجع على غرس الغرور والاستعلاء القوميين المنتفخين. والكتاتيب الإسلامية، بمناهجها المتزمتة والمتعصبة دينيا، أخرجت لنا لحد اليوم عشرات الآلاف من المتطرفين ودعاة العنف وquot; الجهادquot; ومن الإرهابيين. وليس من الصدف أن يكون في مقدمة هموم الأحزاب الإسلامية، في المعارضة والسلطة، ومن سنية وشيعية، الهيمنة على سلك التعليم ومناهجه، وخصوصا التعليم العام، الذي هناك، كما في البيت والعائلة، يتكون الطفل أولا. وسبق وأن أشرنا لدراسة عادل جندي عن كتب المطالعة المدرسية المصرية زمن مبارك، والتي كانت تحمل نفَسْ وتأثير الإخوان المسلمين، والموجهة أساسا للتلاميذ المسلمين وكأن الأقباط غير موجودين [* انظر الملحق]. وكان حزب النهضة التونسي، وهو في المعارضة، يدين ويكفر تدريس الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية التي تفتح أفق الطالب وتشجع لديه قابلية التفكير المستقل والحس النقدي وقدرة الغربلة والتمحيص. ونعرف ما حدث في تونس منذ رحيل بن علي، من عدوان سلفي- إخواني على الجامعات ومحاولات فرض النقاب ، وغير هذا وذاك، مع أن مهمة الإخوان في تونس لتديين التعليم وquot;أسلفتهquot; لن تكون سهلة. وفي إيران الخمينية، قام النظام منذ البداية باستئصال العناصر الإيجابية في التعليم ومحاربة الحرية الجامعية ونشر الطائفية في مفردات التعليم. وهذا ما حدث ويحدث في العراق خلال السنوات العشر المنصرمة، ولاسيما في عهد المالكي والخزاعي وعلي الأديب. وقد أعلن الأخير للتو بأنه طلب إدخال مناهج التعليم الدينية الإيرانية إلى الجامعات العراقية. وصرنا والجامعات تنظم مسابقات للطالبات باسم مسابقات quot;الشموسquot;، فإذا الطالبة ndash; quot;الشمسquot;- هي من ترتدي حجابا مكثفا، إن لم يكن نقابا. وقد علق أحدهم على مقال لي بأن علي أن أزور العراق لأرى السافرات في الشوارع يمشين بحرية. وأقول للموما إليه إن ما ليس مخفيا على القريب والبعيد، إلا المتعامين، هو فرض الحجاب في دوائر الدولة والجامعات، وحتى في الابتدائية. وأذكر أن السيد الخزاعي، حين كان وزيرا للتربية، كان أول ما فعله خلال زيارة له لباريس، أن أمر بتحجيب التلميذات الصغيرات في المدرسة العراقية الباريسية. فالمدرسة يجب أن تنمي في التلميذ عدم التمييز بين الجنسين، وأن تشجع وتطبق الاختلاط،. أما الإسلاميون، فإن المرأة هي ضحيتهم الأولى، ويصل ذلك عند غلاتهم المجانين، لحد تحريم تعليم الفتيات وتكفيره وقتل المعارضين لهم، كما حدث للصبية ملالا الباكستانية وغيرها. كما ليس مجهولا تحويل الجامعات العراقية إلى حسينيات الندب واللطم وضرب السلاسل، بل وصلت هذه الممارسة حتى للجيش نفسه. وهكذا يغرسون الروح الفئوية تدريسا وعمليا، مع أن العراق بلد الأديان والمذاهب والقوميات.
أجل، التعليم يجب أن يكون محايدا دينيا ومذهبيا، بمعنى أن يكون موجها لجميع التلاميذ على اختلاف الانتماءات، أي بروح المواطنة ومبدئها. ويجب أن يكون محايدا سياسيا ، أي بلا ترويج لهذا الحزب أو ذاك، مع ضرورة التربية بحب الوطن كوطن للجميع. وأذكر مفردة في كتب المطالعة الإنجليزية للإعدادية، حيث درست، وهي شعر يقول:
quot; هل هناك رجل لم يقل لنفسه يوما quot; هذه أرضي أنا، هذا وطني؟ إن وجد مثل هذا الشخص، فبادروا لتشخيصه، فلمثله لن يقام تشييع وتأبين.quot;
والمناهج الدراسية الحديثة والمطلوبة تعني بتشجيع حب المعرفة، مثلما تشجع ميول التخصص والعمل اليدوي والمهني لمن يميل لذلك، وغرس وتطوير قدرة التفكير الحر بتدريس الفلسفة والعلوم الحديثة منذ الثانوية، كما تنشط الذاكرة والخيال بحب الشعر والموسيقى وبقية الفنون التي يكرهها ويحاربها الإسلاميون. وكل هذا بأساليب وطرق تربوية مباشرة وغير مباشرة، ونظرية كما عملية. وأذكر من العهد الملكي في العراق أن معلمنا في العربية كان ينشد لنا في الصف السادس الابتدائي قصيدة إيليا أبي ماضي:
quot; جئت لا أعلم من أين..quot;، التي هوجمت بعنف في وقتها من المتزمتين باعتبارها quot;زندقةquot;، ونظم بعض النظامين قصائد معارضة لها. وفي المتوسطة كان المدرس يترنم بقصيدة أبي نؤاس:
quot; عاج الشقي على رسم يسائله... وعجت أسأل عن خمارة البلدِquot;، وكانت ضمن كتاب المطالعة. وفي الثانوية، كنا نقرأ قصيدة البحتري في مدح إيوان كسرى، القائم في العراق، مثلما كنا نقرأ قصيدة ابن العلاف في رثاء هره المتوفى:
quot; يا هر فارقتنا ولم تعدِ وكنت عندي بمنزل الولدِquot;
ومن أساليب التربية غير المباشرة أذكر موضوعا للإنشاء في الثانوية كالأتي:quot; ما رأيك فيما يقوله هذان البيتان، وهما لشاعرين:
quot; وإنما رجل الدنيا وواحدها من لا يعوّل في الدنيا على رجلِquot;
و:
quot; فلا هطلت علي ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا [ أرجو أن أكون قد تذكرت البيت بدقة].
وكان غرض المدرس أن نميز بين الفردية الأنانية الانعزالية وبين روح التعاضد الاجتماعي- الإنساني. وكان هذا أسلوبا في التربية غير مباشر لا على الطريقة الوعظية. وفي الوقت نفسه، فإن تدريس قصائد الفخر العنترية والهجاء يعمل بالضد من واجبات تربية العادات والقيم الإيجابية عند التلاميذ، وهي يجب أن تحصر للمختصين من طلبة الدراسات العربية العليا .
إيلاف في 7-8 مايو 2013
[* ملحق: عن دراسة الأستاذ عادل جندي في إيلاف في 4 يناير 2008 في تحليل وتفكيك كتب المطالعة الابتدائية والإعدادية أيام مبارك، والتي كانت تحشر النصوص الدينية الإسلامية حشرا بدون مناسبة لغرس عقيدة المرجعية الدينية لكل شيء، أي quot; الإسلام هو الحلquot;.:
مثلا:
للصف الثاني الابتدائي وتحت عنوان quot; بيئتي نظيفةquot;، يعلق الكتاب كالتالي:
quot; [ قال تعالى:quot;اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلمquot;.].... ترى ما العلاقة؟!!
وللصف الثالث عن الغذاء والصحة، كان التعليق هكذا:
[قال الله تعاليquot; ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعونquot;..] ...فما العلاقة؟!
وللصف السادس بعنوان quot; مجتمعناquot;، يطلب الكتاب من التلميذ ما يلي:
اذهب إلى المكتبة، وابحث عن آيات شريفة أو أشعار تؤكد قيمة العمل، وسجلها لتعرضها على زملائك.
تمارسن:
اذكر من الأبيات ما يتفق مع كل مما يأتي :
قال صلى الله عليه وسلم:quot; إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنهquot;...
قال تعالى: quot;إنا لا نضيع أجبر من أحسن عملاquot;
هذه أمثلة قليلة من حشد من الأمثلة التي أقحمت إقحاما في كتاب المطالعة لتلاميذ الابتدائية المصرية، مما يذكر بطرق ومفردات التدريس في الكتاتيب.
وفي كتاب للأول الإعدادي في موضوع quot; حب الوطنquot; حديث طويل عن أن مصر كانت أرض الأنبياء، وأن النبي الكريم أشاد بدورها في حماية ونشر الإسلام. أي لا مهمة للوطن غير نشر الإسلام