quot;صيف عام 1996 كنتُ في جب جنينquot; (...) ثم أن رفيق سفر للراوي quot;اقترح في طريق عودتنا الى بيروت أن نعرج على عنجر للتحدث مع غازي كنعان، الذي كان رئيس جهاز الاستطلاع السوري في لبنان آنذاك، لكننا لم نجده في مكتبه فالتقينا بنائبه العقيد عدنان بلولquot; (...) وإذ دخلا عليه (وجدناه يقرأ جريدة quot;النهارquot; وبيده قلم يعلّم فيه على بعض المحتويات. ولما جلسنا نتحدث طوى الجريدة ووجه إليّ سؤالاً صعباً بقوله: ماذا برأيك يجب أن نفعل لكي نكسب المسيحيين إلى جانبنا؟ فقلت له بصراحة، كما أصر أن يكون الحديث: إنكم لن تستطيعوا ذلك مهما فعلتم.).

ما ورد بالفقرة السابقة مُقتَطف من خاتمة الصفحة 708 وبداية 709 بكتاب (علامات الدرب ndash; سيرة ذاتية ndash; الطبعة الأولى: يناير 2013) للكاتب الصحافي اللبناني سليمان الفرزلي، صاحب التجربة الصحافية والمعرفية، الممتدة لأكثر من نصف قرن، والمُحلِقة في فضاءات تعددت أطيافها، أجواؤها، أزمانها، أماكنها، نجاحاتها وانكساراتها، لذا ليس مفاجئاً أن يضع كتاباً من نوع يندر أن يتكرر ما بُذل لإنجازه من جهد استغرق عامين، يقع في سبعمائة وأربع وأربعين صفحة، من دون صفحات فهرس الأعلام، ومن دون أية صورة حتى لمؤلف الكتاب ذاته.
لست أدري إلى أي مدى أصبت إذ بدأت بالمقتطف الوارد أعلاه، إنما قصدت الاستهلال بأسطر من كتاب حافل بالكثير مما يمكنني اعتباره قنابل ضوئية، بما تكشف من معلومات وخفايا، أو تُذكّر بخلفيات، فتنقل القراء المتابعين لما يجري في العالم العربي منذ عامين إلى أجواء ما حصل وما قيل على مسرح الأحداث قبل سنين، وبما يشكل، في تقديري، إضافة تعين على الفهم، أو أنها، بأقل تقدير، وهذا مهم في حد ذاته، تفتح باب الاجتهاد أمام آخرين لتشريح ما أورد الكاتب، أو الرد على ما تضمن الكتاب بتوضيح يضيف فيصحح، أو يرفض فينفي، وكلا الأمرين ضروري طالما جرى اعتماد مبدأ التوثيق والابتعاد عن الغرض الشخصي.
عَودٌ على بدء، هذا لبنان اليوم، كما الأمسين القريب والبعيد، يكتوي باشتعال نيران الحرائق في داخله ومن حوله، وبالمد والجزر في علاقات الجيران الأقربين وعن بعد، خصوصا في مثلث إيران- سوريا- إسرائيل. صاحب اقتراح زيارة غازي كنعان، أعلاه، هو السياسي إيلي الفرزلي، ابن عم مؤلف الكتاب. سبق الزيارة كلامٌ مهم يعود إلى العام 1981 تضمن ما يلي: (أوفدت القوات اللبنانية إلى لندن مبعوثاً خاصاً للاتصال بالجاليات اللبنانية هو المهندس ريشار جريصاتي، الذي دُعيت الى لقاء معه. وفي نقاش معه حول مسألة العلاقة مع سوريا، سألته لماذا يعادون سوريا مع أنها يمكن أن تكون أقرب الحلفاء اليهم من الناحية الموضوعية، فقال إن هذا صحيح من حيث المبدأ، لكن هذا التحالف المُقتَرَح لا يمكن أن يتم إلا إذا تقسمت سوريا وقامت فيها دولة علوية واضحة المعالم، فنكون عندئذٍ أول حلفائها. وسألته عن أسبابهم لهذا الطرح التقسيمي، فقال إن السوريين الحاكمين حالياً لديهم خطوط دفاع ليس لنا مثلها، ولا نستطيع أن نقول بها. فالحكم العلوي الراهن في سوريا، حسب قوله، بإمكانه إذا انحشر أن يرفع راية العروبة والوحدة والاشتراكية، وبإمكانه في حالات أخرى أن يرفع راية الإسلام ويجاهر بإسلاميته متخلياً عن قناعه العلماني.).
كلمات المهندس ريشار جريصاني، العائدة إلى ما قبل أكثر من ثلاثين سنة، كما أوردها سليمان الفرزلي، هل تقرع أية أجراس بشأن التطور الراهن للأحداث على أضلاع المثلث السوري-اللبناني-الإسرائيلي؟
نعم، أو كلا، أمر يتوقف على أكثر من اعتبار، وبالتالي يتباين الرأي كما تباين البنادق والأفكار في المشهد الحالي. إنما لافتٌ أيضا الرد السوري على جريصاني آنذاك. يقول الفرزلي أنه روى للعقيد عدنان بلّول ما سمعه من مبعوث القوات اللبنانية، فرد بالتالي: (خطوط الدفاع التي تحدثت عنها يمكن أن تكون نافعة لهم لأننا نستعملها لصالحهم إذا اقتضى الأمر. أما بالنسبة الى المسألة العلوية فأقول إننا نحن سوريون ولست أستسيغ أن أعرف عن نفسي بأنني علوي. أنا سوري عربي ولا أحد يستطيع أن يصفني بأي صفة أخرى. لكن إذا أصرّ بعضهم على سوء نيته بإطلاق هذه الصفة، فإنني علوي على رؤوس الأشهاد ولا يغير ذلك من الأمر شيئا. إن هذه المنطقة، منطقة المشرق، ليس فيها أكثرية وأقلية، كلنا أقليات، نعم هناك أقلية أكبر من أقلية، لكن لا أحد يستطيع أن يدعي أنه أكثرية تخوله حرمان الآخرين من حقوقهم عن طريق العصبية الدينية أو التعصب العنصري.).
على صعيد المشهد السياسي، تلك واحدة من روايات عدة تضمنها كتاب سليمان الفرزلي جديرة بالتوقف أمامها ومحاولة فك رموز مدلولاتها. حالة أخرى ليست تقل أهمية وما تزال تأثيرات الحدث المتعلق بها حاضرة، تلك التي تخص بشير الجميّل، الرئيس اللبناني المُنتَخب، ثم المُغيّب باغتيال لا تزال بعض أسراره غامضة، وترد في شأنه على صفحات كتاب quot;علامات الدربquot; غير رواية تلفت النظر. من ذلك، ما يخلص إليه الفرزلي من لقاء فريق التحرير بمجلة quot;الحوادثquot; مع الصحافي الأميركي جوناثان راندال في لندن سنة 1983 وكان صدر له كتاب بعنوان quot;إلى نهاية الطريق: أمراء الحرب المسيحيون، والمغامرون الإسرائيليون، وحرب لبنانquot;. يقول الفرزلي إن راندال تحدث quot;مطولاً عن معرفته بشير الجميل وحركته بمزيج من الإعجاب والشكquot;، ثم أن الكاتب سأل راندال عن quot;لقاءاته مع بشير الجميل، ومنها لقاءات ساخنة، تردد قليلاً ثم قال إن فيه سمات قيادية مميزة، لا تخلو من رعونة، وأنه صادق في ما يؤمن به، لكن فيه أيضا عرقا من السذاجة يشكل مطباً له، وما أصابه ليس مفاجئاً، لأنه لاعب صغير في لعبة كبيرة ويتوهم أنه من الكبارquot;. ويلحظ الفرزلي ذلك السطر الأخير، فيقول لمدير التحرير، ريمون عطا الله، أن quot;ما قاله عن بشير الجميل يلقي شبهة في قتله على الأميركيينquot;، ثم يستدرك: quot;لكن ذلك يبقى من قبيل الحدسquot;. واقعة أخرى ذات أهمية أيضا في أمر بشير الجميل تلفت النظر، إذ تسلط ضوءاً على علاقته مع ياسر عرفات. يقول الكاتب أن القيادي الفلسطيني عطا الله عطا الله (أبو الزعيم) أبلغه عام 1983 أن quot;الرئيس ياسر عرفات كلفه بأن يكون ضابط ارتباط مع بشير الجميل خلال فترة الاجتياح الإسرائيلي للبنانquot;، ثم إن quot;آخر مهمة قام بها في هذا الإطار أنه خلال حصار بيروت من قبل القوات الإسرائيلية اتصل ببشير الجميل لأمر عاجل، فتولى قائد القوات اللبنانية نقله عبر الخطوط الإسرائيلية إلى منزله حيث تناول معه طعام الغداء لوحدهماquot; (...) ثم في quot;ختام هذا الحديث قال أبو الزعيم إنه يكن احتراما كبيرا لبشير الجميل، وأن التاريخ سوف ينصفه في المستقبل، وكذلك الرئيس أنور السادات، لأنهما كلاهما تصرفا بروح وطنية عالية خلافاً للصورة الخيانية الشائعة عنهما، والتي أدت الى اغتيالهما الواحد تلو الآخرquot;.
ذلك كلام مفاجىء، بل صادم، من دون شك، لكثيرين، كما يقول الفرزلي نفسه: quot;وقد فاجأني أبو الزعيم بتوصيفه لبشير الجميل والصورة التي رسمها لهquot;. أما من جهتي فليس يفاجئني أي شيء من ذاك القبيل، إنما ذكّرني ما قرأت بصورة الجميّل إذ يجيب، بهدوء أتذكره جيداً، مراسل quot;بي بي سيquot; خلال الحرب وقبل مجازر صبرا وشاتيلا عن تساؤل فحواه: وماذا عن مصير مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين في لبنان؟ فيرد بشير: quot;ليست مشكلتي، خذوهم إلى البيكاديلليquot;. إجابة صاعقة ليس من السهل أن تطويها الذاكرة.
كذلك، ليس من السهل إعطاء quot;علامات الدربquot; ما يفي الكاتب والكتاب حقهما لجهة عرض وقائع عدة تلقي الكثير من الضوء على المشهد السياسي. أما في الشأن الصحافي، فالأمر ربما أكثر صعوبة. من بدء المشوار مع الصحافة في لبنان، إلى الاغتراب بين باريس ولندن، ثم الاستقرار في الثانية، يروي سليمان الفرزلي من القصص اللافتة ما يبقى من حيث الأهمية في الإطار الخاص، ومنها ما يتجاوز الذات إلى العام، وهذه في منتهى الأهمية التأريخية، وهي بلا شك تندرج في سياق إسهام مهم ضمن التوثيق المطلوب لظاهرة الصحافة العربية في المهجر. وكما أشرت في مقالة سابقة بعنوان: quot;مسؤولية تأريخ نشوء صحافة لندن العربيةquot;، فإن هذا التأريخ مسؤولية كل من عايشوا التجربة وشاركوا في صنعها، ولا شك أن سليمان الفرزلي أحد النجوم البارزين بينهم، ثم إن علاقة المودة التي جمعت بين الفرزلي وعدد من كبار المسؤولين العرب، ومن هؤلاء - على سبيل المثال - الدكتور فاضل البراك في العراق، وميشال عفلق في سوريا، أتاحت له الاطلاع على تفاصيل لم يكن ليطلع عليها غيره، ما يعطي لما أورده في كتابه عن صحف ومجلات أهمية خاصة.
وأختم، من دون قدرة على أن أفي الموضوع حقه، فأقول بألم، وبلا مبالغة، أن بين ما قرأت بين على صفحات quot;علامات الدربquot; لكاتب بعمق تجربة سليمان الفرزلي، عن المشهد الصحافي العربي من بيروت، إلى باريس، ثم لندن، ما كان له وقع صدمة قست عليَّ أحياناً حد أنني تمنيت لو لم أكن جزءاً حالة الصحافة العربية عموما، ثم خصوصا في المهجر. لكن ذلك حديث آخر.