الحرب أيا كانت هي بثلاث كلمات: جريمة وجنون وإفلاس أخلاقي.
هي عجز إنساني واستيقاظ للغريزة البدائية على اللوجوس (Reason).
هي إخراج أقذر ما في الإنسان على أفضل ما عنده.
هي نكسة وتوديع للحضارة باتجاه الغابة.
هي انتصار للشيطان على آدم الإنسان.
مع ذلك تحدث فما سرها؟
مع كتابة هذه الأسطر القتال دائر في سوريا بين النظام والثورة، بعد أن دخل حزب الله اللبناني على الخط، وبدأت ملامح حرب مذهبية تطل بقرنها تذكرت حرب الثلاثين عاما المذهبية في أوربا التي امتدت بين عامي 1618 ـ 1648 وانتهت بصلح وستفاليا.
نحن في العام 1434 هـ وأوربا في عام 1434 ميلادية كانت تستحم بالقذارة وتبدأ حركة الإصلاح الديني، وغارقة في حروب شتى. ويبدو أن تاريخنا الهجري يمكن استبداله بالميلادي.
الحرب في سوريا سوف تنتهي في يوم لا ريب فيه. والثورة ستصل إلى مستقر ومستودع. ولكن السيء هو تفسخ النسيج الاجتماعي، وحجم هائل من الدمار، وقتلى ومعاقين بمئات الآلاف وكراهيات بقدر الجبال.
الجو الروحي مسمم. كثيرون فقدوا اتزانهم وعقلهم وآمنوا بالقتل.
إنه مخاض عسير لا نعلم فيه هل ستلد الأم طفلها بدون عاهة ومعاق؟ هل سيموت الجنين وتنجو الأم؟ أم هل ستموت الأم ويموت الجنين في ظروف الوضع الدموية؟
أذكر جيدا من فترة تدريبي في حلب تلك الشابة التي جاءت برحى عدارية تنزف فماتت على الطاولة ووالدها يتأمل جسدها الغض.
يبدو أن هذا المنعرج تخوضه كل أمة قبل أن تصل إلى القناعة التي تقول أن القوة باطل. وأن التسلح باطل. وأن القتل باطل. وأن الحرب باطل. كما جاء في كلام الجامعة داوود.
ولن يطول قدوم ذلك اليوم، حين يقف الناس في المتحف مشدوهين، يتأملون فوهات المدافع، أو أصناف الأسلحة التي لا تنتهي، والتي صُممت بعناية من أجل الفتك بالإنسان؟!
سوف يتعجبون من نوعية ذلك الإنسان البدائي (القاتل)، وينظرون إليه كما ننظر نحن اليوم إلى الديناصورات التي اختفت من وجه اليابسة.
وإذا كانت الديناصورات قد غيبَّها الثرى قبل (65) مليون سنة، وإذا كانت الحياة قد بدأت قبل (3,5) مليار سنة، وإذا كان أمام الحياة أن تتابع سيرها في الأرض ( 5.5 ) مليار سنة أخرى، فقد نتحسر أننا ولدنا مبكرين للغاية، لأن التاريخ (الفعلي) للإنسان لما يبدأ بعد!!
عندما كنت في ألمانيا الغربية (سابقاً) أعمل في مركز لجراحة الأوعية الدموية في منطقة (وستفاليا)، وكان ترخيص مزاولة المهنة يصدر من مدينة (منستر - MUENSTER) لم يكن يخطر في بالي مطلقاً أن هذه المدينة تحمل (ختماً) لعهد مريع ودعته ألمانيا في القرن السابع عشر حين تم توقيع معاهدة (صلح وستفاليا - WESTFALLEN) عام 1648 م التي ختمت حرباً ضروساً استغرقت ثلاثين عاماً ؟!
اندلعت هذه الحرب المروعة ببدايات بسيطة وتنافسات تافهة بين أمراء الإقطاعيات، ولم يكن يخطر في بال أحد أنها ستكون كما قال الشاعر العربي امرؤ القيس قديماً :
أولُ ما تكون الحرب فُتيَّةٌ تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا حميت وشُب ضِرامها غدت عجوزاً غيرُ ذات حليل
شمطاء جزت رأسها وتنكرت مكروهةً للشم والتقبيل
اشتركت في هذه الحرب جيوش شتى من ألمانية وسويدية وفرنسية وهولندية وإسبانية ودانمركية، وتطاحنت مذاهب متفرقة من كاثوليك وبروتستانت وكالفانيين، ودُمرت الأرض الألمانية شرُ تدمير، وقضى نحبهم حوالي ستة ملايين من أصل (21) مليوناً، أي مات حوالي ثلث السكان، وبالطبع من الشباب، ففي الحرب تنقلب الآية فيدفن الآباء أبناءهم، لا كما هي سنة الحياة بدفن الصغار آباءهم الكبار المسنين!! ولم تقم لألمانيا قائمة إلا بعد قرن من هذه الحرب الأهلية المدمرة.
جاء في كتاب قصة الحضارة لويل ديورانت:
(تناقص عدد سكان ألمانيا بسرعة أثناء الحرب، وتقول التقديرات المعتدلة بأن عدد سكان ألمانيا والنمسا هبط من (21) إلى (15) مليوناً، وبين (35) ألف قرية في (بوهيميا) هناك نحو (29) ألف قرية هجرها أهلوها أثناء الصراع، وهناك في مختلف أنحاء الإمبراطورية مئات من القرى لم يبق فيها ساكن واحد، وقد يقطع المرء في بعض الأقاليم ستين ميلاً دون أن يرى قريةً أو بيتاً، وتُركت آلاف الأفدنة الخصيبة دون فلح أو زرع بسبب نقص الرجال أو الدواب أو البذور، أو لأن الفلاحين لم يكونوا على ثقة من أنهم سوف يحصدون نتاج ما يزرعون، واستخدمت المحصولات لإطعام الجيوش، وكان ما تبقى يحرق لئلا يستفيد منه الأعداء، واضُطر الفلاحون في كثير من الأماكن إلى أكل الفضلات المخبأة أو الكلاب والقطط والفئران أو جوز البلوط والحشائش، وقد وجد بعض الموتى وفي أفواههم بعض الحشائش، وتنافس الرجال والنساء مع الغربان والكلاب على لحم الخيول الميتة، وفي الألزاس انتزع المعتدون المشنوقين من المشنقة تلهفاً على التهام جثثهم، وفي أرض الراين كانت القبور تنبش وتباع الجثث لتؤكل، واعترفت امرأة في مدينة (الساربروكن SAARBRUEKEN ) بأنها أكلت طفلها، وأصبحت المدن الكبرى أطلالاً خربة: ماجديبورج ( MAGDEBURG ) وهايدلبرج ( HEIDELBERG ) ونورمبرغ ( NUERNBERG ) وبايروث ( BAYREUTH )، وتدهورت الصناعة، وكسدت التجارة، وصار التجار الذين كانوا يوماً أثرياء يتسولون أو يسرقون ويسلبون من أجل لقمة العيش، وبات الهواء ساماً بسبب الفضلات والنفايات والجثث المتعفنة في الشوارع، وانتشرت الأوبئة مثل التيفوس والدوسنطاريا والتيفود والإسقربوط بين السكان المذعورين، ومرت القوات الاسبانية بمدينة ميونيخ فتركت وراءها طاعوناً أودى بحياة عشرة آلاف ضحية في أربعة أشهر، وذوت وذبلت في أتون الحرب الفنون والآداب التي كانت تضفي على المدن شرفاً ومجداً، وانهارت الأخلاق والروح المعنوية على حد سواء، واختفت كل المثل الدينية والوطنية بعد جيل ساده العنف)
كانت نهاية هذه المعاناة في عام (1648) م ، وأما في عام (1864) م فقد بدأت كارثة لا تكاد تصدق، ولم تسلط عليها الأضواء تماماً حتى الآن، وهي حرب (الباراغواي) ضد تحالف (الأرجنتين والبرازيل والأورغواي) ومات في هذا النزاع الدموي والذي استمر ست سنوات حوالي (80%) من سكان الباراغواي، كان عدد السكان مليون وثلاثمائة ألف نسمة، لم يبق منهم سوى ( 200 ) ألف فقط ؟؟!!
وتقع الباراغواي في أمريكا الجنوبية وتقع البرازيل إلى الشمال منها، وفي الجنوب الأرجنتين، وليس لها منفذ على المحيط الأطلسي، وقيل إن محرك الحرب كان من ديكتاتور أرعن في الباراغواي، أراد أن يضم الأوروغواي التي لها ساحل على المحيط فتورط في الحرب الطاحنة التي أفنت شعبه!!
هذان مشهدان من صفحات التاريخ المظلمة والمؤلمة ، والسؤال: إذا كانت الحرب بكل هذه الفظاعة والقسوة، بكل هذه الآلام والخسائر، وهذا التدمير فلماذا يمارسها البشر؟؟ هل الحرب إفراز بيولوجي وتعبير طبيعي؟ أم تشكيل ثقافي ومرض اجتماعي؟
وقف العالم الفرنسي (غاستون بوتول) أمام هذه الظاهرة متأملاً وكان ذلك بعد الحرب العالمية الثانية، وهو يتعجب من عدم وجود معاهد علمية تدرس مثل هذه الظاهرة المخيفة ، التي تفترس الجنس البشري وتهدد وجوده؟
يقول الرجل: (لم تأخر الباحثون هذا التأخر الكثير عن تأسيس علم اجتماعي حقيقي للحروب (POLEMOLOGIE)؟ ولم َ لم ْ تبعث أهم ظاهرة اجتماعية أي باحث على دراسة خصائصها وجوانبها الوظيفية دراسة موضوعية ؟).
من الغريب أن الأمراض العضوية البدنية أُسس لها من المخابر والمصحات والمستشفيات مالا يحدها عدد، في حين أن هذه الظاهرة الاجتماعية المرعبة ليس لها معهد يدرس بنيتها، ويتقصى أسبابها، ويعرف وظيفتها، ويصل بالتالي إلى إيجاد مصلٍ واقٍ لهذا المرض المعضل والمعند؟! يتابع: (إننا نرى منذ نصف قرن شيوع المخابر المخصصة لدراسة السرطان أو السل أو الطاعون أو الحمى الصفراء، وهي تزداد كل يوم ، فلمَ لم ْ تبعث ْ على إيجاد أي معهد للأبحاث، تلك الحرب التي تذهب وحدها بضحايا أكثر من كل هذه المصائب مجتمعة ؟).
أعرف تماما أن الكتابة مسؤولية، وأن الحرب جريمة وجنون وإفلاس أخلاقي يخوضها البشر بكل وعي، يستباح فيها كل مقدس ونبيل، ويصبح المجرم فيها بطلا تعلق النياشين على صدره. لذا يجب أن يقف من يؤمن بالسلام فيقول أنا ضد الحرب.