البداية:

كان الملك غازي من هواة الإذاعة، فاستقدم جهاز بث بقوة (كيلو واط) واحد، وبدأ يبث خطاباته من القصر الملكي لعدد محدود من أجهزة الاستقبال وزعها على بعض الأماكن العامة في بغداد. ثم قررت الحكومة جعلها إذاعة رسمية للدولة. وقد بدأ الإعداد لها بالفعل، وتم افتتاحها باحتفال كبير في 1 تموز/ يوليو 1936.

حدثني من شهد ذلك اليوم من مواطني بغداد حديثاً مثيراً، فقال: لقد ترك الناس بيوتهم وتجمهروا في الساحات العامة التي نُصبت فيها أجهزة الاستقبال لمشاهدة بداية هذا الإنجاز العظيم، الذي هو عبارة عن صندوق خشبي فيه أزرار ولوحة عليها بعض الإشارات ينطق ويغني!!! وزحفت جموع من الرجال والنساء والأطفال إلى منطقة الصالحية في بغداد ليشاهدوا المحطة التي ترسل ذلك الكلام والغناء والموسيقى. لكنهم لم يشاهدوا سوى مبنى صغير يقف شرطيٌ واحد على بابه، ولا شيء غير ذلك. لم تكن المحطة سوى غرفة المدير وأستوديو صغير للمتحدثين وللموسيقى والغناء والقرآن الكريم.

وكانت تذيع ثلاث مرات في الأسبوع فقط، أيام السبت والاثنين والخميس، ساعة في الصباح وأخرى في المساء. وكانت مرتبطة بوزارة الأشغال والمواصلات. كان جهاز إرسالها صغيرا وبقوة نصف كيلو واط فقط، وبطول 391 مترا (علما أن أغلب الإذاعات الآن لا تقل قوة إرسالهـا عن 500 إلى 800 كيلو واط).

كان أحد المذيعيـن الرائدين حسين الكيلاني أو محمد عبد اللطيف يعلن عن اسم المغني وكاتب الكلمات والملحن وأسماء الموسيقيين جميعاً، ثم يقف صامتاً وينتظر حتى انتهاء الأغنية أو (الوصلة) التي كانت لا تقل عن نصف ساعة، ليعلن بعد ذلك عن اسم المغني التالي و(جوقته)، وكذلك كان يفعل مع المحدثين أو قراء الذكر الحكيم. وأخبرني الإذاعي الكبير عبد الحميد الدروبي (وكان ينوب عن زميليْه أثناء تمتعهما بالعطلة الأسبوعية) أن حفلات القبانجي وسليمة باشا وخطابات بعض المحدثين الذين يحبون الإطالة كانت عبئا ثقيلا جدا على المذيع، لأنه ملزم بأن يقف على قدميه، ساكنا، نصف ساعة وأحيانا ساعة، دون حركة ولا صوت.

أُلحقت الإذاعة بعد ذلك بوزارة المعارف، وأصبحت تبث برامجها كل يوم بمعدل ساعتين.من أوائل المحدثين الأساتذة مصطفى جواد وفؤاد جميل وعبد المنعم الكاظمي والحاج حمدي الأعظمي وجلال الحنفي. ومن أوائل قراء القرآن الكريم الحاج محمود عبد الوهاب والحافظ مهدي، ومن أوائل المطربين والمطربات محمد القبانجي ورشيد القندرجي وعبد الرحمن البنا وسليمة مراد وزكية جورج والمونولوجست أميرة جمال وعزيز علي. وكان الملا عبود الكرخي (الشاعر الشعبي الشهير) يتسلم الميكروفون فيقرأ ما لا يقل عن خمس قصائد شعبية مطولة في كل مرة.

وفي عام 1949 قدمت أول تمثيلية إذاعية في العراق باسم (مجنون ليلى) باللغة العربية الفصحى بإشراف عبد الله العزاوي. بعد ذلك نقل ارتباط الإذاعة من وزارة المعارف إلى وزارة الداخلية وسميت باسم (مديرية الدعاية والنشر).

مدير الإذاعة:

كان منصب مدير الإذاعة مهماً جداً في تقدير الحكومة، لذلك كان يحتكره رؤساء الوزارات للمقربين من أعوانهم. وعليه فإن كل مدير إذاعة كان ُيعفى من منصبه بمجرد خروج (سيده) من الوزارة. ومن أوائل مدراء الإذاعة شخص من آل الراوي (لا يحضرني اسمه الأول الآن) وشاكر علي التكريتي (أبو جلال).

من طرائف ما مر به الأستاذ الراوي في فترة إدارته أن الباشا نوري سعيد (رئيس الوزراء) عينه مديراً للإذاعة لمساعدته مادياً، لأن على مدير الإذاعة أن يعمل فترتين، صباحية ومسائية، ويتقاضى سبعة دنانير شهريا إضافة لراتبه الأصلي، كمخصصات إضافية بدل العمل الساعات الإضافية التي يقضيها كل يوم لمراقبة الإذاعة. لكن مهندسي الصوت وفنيي تشغيل الإذاعة سرعان ما اكتشفوا سذاجة هذا المدير وبساطته واستعداده لتصديق أي شيء، فاستغلوا ذلك وابتزوه به إلى أبعد الحدود، خصوصاً وأن أجهزة التشغيل الضخمة كانت فوق مستوى عقله البسيط.

تعرفت شخصيا على هذا المدير وروى لي حكايات طريفة عن أيامه في الإذاعة أدرجتها في كتابي الأول (البث المباشر) الصادر عام 1971. ومنها حكاية أكل البلبل.

كان من ضرورات ضبط المستوى الفني للموجات الصوتية أن يستخدم القسم الفني بلبلاً حديدياً يعمل ذاتياً، يشبه لعبة أطفال، ينطلق منه صوت بلبل لمدة خمس دقائق يومياً قبل افتتاح البث، لقياس أعلى وأدنى ذبذبة صوتية لتثبيت المستوى الصوتي للمرسلة الإذاعية.

لم يكن المدير يعرف هذه التفاصيل، بل كان يعتقد أن هناك بلبلاً حقيقيا مدرباً على التغريد قبل افتتاح الإذاعة لإمتاع المستمعين وإغرائهم لسماع الإذاعة. وكان المهندسون (الخبثاء) يرسلون أحدهم كل يوم ليطلب من السيد المدير ربع دينار لشراء أكل للبلبل الذي يفتتح الإذاعة، وعبثاً كان يحاول إقناعهم بأن الميزانية لا تتضمن بنداً باسم (أكل بلبل)، وكانوا يأخذون منه ربع الدينار، وكان مبلغاً كبيراً في أوائل الأربعينيات، لينفقوه بعد انتهاء البث المسائي في نادي السكك الحديد المقابل لمبنى الإذاعة على الأكل والشراب. واستمرت الحال هذه أشهرا، إلى أن زار الإذاعة ذات يوم رئيس الوزراء نوري باشا السعيد، وسأل مديرها عن أحواله، فأبلغه بأن المخصصات الإضافية التي تكرم الباشا بتخصيصها له لمساعدته مالياً تذهب هباء. مؤكداً للباشا أن عباقرة وزارة المالية نسوا أن يضعوا في ميزانية الإذاعة بنداً باسم (مخصصات أكل بلبل)، ولولاه هو لتعذر تشغيل الإذاعة. وشرح له حكاية البلبل وربع الدينار، فضحك الباشا وقال لــه: إن (الملاعين) خدعوك. وأعفاه من المهمة وأمر بنقله إلى التعليم.

غلق الإذاعة:

كان يمكث في الإذاعة كل يوم، صباحاً ومساءً، من أول ابتداء البث وإلى نهايته ليطمئن قلبه. يقول إنه كان يخشى إذا غاب أن يغشه المهندسون فيغلقوا الإذاعة قبل وقتها المحدد ويهربوا من العمل ويسمع الباشا.

وذات مساء، ولظرف طارئ، لم يستطع الانتظار إلى أن تحين ساعة الإقفال فأوصى المهندسين قائلاً:

أولادي لا تستغلوا غيابي وتغلقوا الإذاعة قبل الموعد المقرر. فوعدوه خيراً، وخرج. فلم يكد يصل إلى ساحة الصالحية حتى سمع السلام الملكي الذي كانت تُختَم به برامجُ الإذاعة فعاد راكضاً غاضباً وانهال على المهندسين بالشتائم، لأنهم غافلوه وأقفلوا الإذاعة مبكرا. لكنهم أثبتوا له أن الإذاعة ما تزال تعمل وأن السلام الملكي الذي سمعه كان منطلقاً من دار السينما القريبة من مبنى الإذاعة. وكانت العادة قد جرت على عزفه قبل عرض الفيلم مع صورة الملك والعلم العراقي ويقف الحاضرون وهم يرفعون أيديهم تحية للعلم وللملك المفدى.

مذيع أخبار

كان موعد نشرة أخبار الصباح هو الساعة السابعة. وكان المدير نفسه يحضر مع المهندسين قبل الافتتاح كل يوم زيادة في الحيطة والحذر. وذات صباح تأخر المذيع ناظم بطرس لعدم توفر وسيلة تنقله من منزله في عرصات الهندية إلى الصالحية. فلم يجد المهندسون بداً من إقناع المدير بسد الفراغ وقراءة الأخبار بدل المذيع إنقاذاً للموقف. يقول: laquo;لقد أصابني الهلع. كيف أجلس وراء الميكروفون وأقرأ الأخبار وعلى الهواء مباشرة، ويسمعني الباشا؟ إنها مهمة شاقة بل مخيفة ومرعبة. لقد جف حلقي حتى قبل أن أدخل الأستوديو وقبل أن أفتح فمي لأقرأ أول جملة من أول خبر، فماذا سيحدث طيلة ربع ساعة من القراءة المتواصلة؟ لكن أولادي المهندسين شجعوني، وقالوا لي:

يا أستاذ أنت شاعر، وكثيراً ما تواجه الجماهير خطيباً، وإن المسألة ليست أكثر من خطبة من خطاباتك المعتادة، فتوكلت على الله، ولا أدري كيف بدأت وكيف انتهيت ولا ماذا قرأت، فقد أخطأت كثيرا وتأتأتُ كثيرا، وتوقفت كثيرا أثناء القراءة. وفور انتهاء نشرة الأخبار أسرعت خارجا أقطع الشارع إلى محل العصير المقابل لمبنى الإذاعة لأبل ريقي، وبينما كنت أعبر الشارع فاجأني صاحب محل العصير سائلا بسخرية مرة:

أستاذ رحم الله والديك، ما تكقول لي يا زمال اللي قرا الأخبار اليوم؟؟..فقلت له لاهثاً: حضرتنا يا عزيزي !!

سـاعة أبو ياس

خضير ياس (أبو ياس) كبير مهندسي الصوت في الإذاعة. موظف تقليدي جداً ملتزم بدقائق العمل الصغيرة إلى أبعد الحدود، يمتنع عن الكلام وعن رد السلام طيلة فترة مناوبته في إدارة البث. كان يقف مستنفراً كل حواسه وطاقاته يراقب المهندسين الآخرين لكي يتأكد من سلامة أدائهم وحسن إدارتهم للأجهزة التي كان يُعزها كثيراً ويعتني بها كما يعتني بأولاده. ولأنه على هذه الدرجة من الدقة والحرص والأمانة فقد كان وحده الذي يقع عليه اختيار مدراء الإذاعة لكي يتولى مسؤولية ضبط ساعة الإذاعة الخشبية الضخمة، وضبط مواعيد الأذان والأخبار.

وطيلة شهر رمضان كانت ساعة أبو ياس هي الساعة الشرعية الوحيدة لضبط أوقات السحور والإمساك والإفطار. وقد جرت العادة على إذاعة تسجيل صوتي لإطلاقات المدفع وأذان المغرب كل يوم في وقت الإفطار، دون الحاجة إلى الانتقال إلى القصر الجمهوري لنقل مدفع الإفطار الحقيقي والأذان الحي. فكان أبو ياس يضبط ساعته يوميا على ساعة (بغبن) من الليل، لأن إذاعة لندن كانت لاتسمع بوضوح إلا في الليل وأول الصباح.

وذات يوم، ولسوء الحظ كان أبو ياس قد نسي أن يطابق توقيت ساعته مع توقيت إذاعة (بغبن). وبسبب استحالة سماع إذاعة لندن في عز النهار لتصحيح التوقيت أصبح من المتعذر جداً أن يتمكن أبو ياس من تحديد موعد الإفطار. بذل محاولات عديدة مع وكالة الأنباء العراقية لإنقاذه بالتقاط إذاعة لندن عبر أجهزة اتصالاتها المتطورة، لكن دون جدوى، ولم يعد أمامه سوى الوقوف عند مدخل مبنى الإذاعة الرئيسي ويده على أذنه محاولا تركيز سمعه كله في اتجاه القصر الجمهوري القريب من الإذاعة حيث يُطلق مدفع إفطار حقيقي ويُرفع الأذان. وكان قد اتفق مع أحد مهندسيه على أن يقف في مدخل بهو غرفة البث، داخل المبنى، ليستلم منه الإشارة، فينقلها بدوره إلى زميله المهندس الثاني المكلف بتشغيل الشريط الذي يحتوي على صوت المدفع والأذان. كان أبو ياس في تلك الدقائق الحاسمة متوتراً إلى آخر نفس. وكان المشاكسون من زملائه يحاولون إشغاله بالسلام عليه أو بسؤاله عن أمر من الأمور لكنه لم يكن يرد على أحد بل يومئ بيده بعصبية طالباً منهم السكوت والانصراف محاولاً إفهامهم بأهمية المهمة التي يقوم بها. وفجأة رفع أبو ياس يده بالإشارة المُتفق عليها وصاح على المهندس الوسيط: اضرب. ثم أعطى الوسيط إشارته لزميله الآخر الذي أدار شريط التسجيل لمدفع الإفطار وأذان المغرب. ولم تمر دقائق حتى اتصل موظف من القصر الجمهوري غاضباً سائلاً عن (الحيوان) الذي أطلق مدفع الإفطار قبل ساعة من موعده الصحيح. وهنا لطم أبو ياس على رأسه وصرخ بحرقة: لقد تيتمت يا ياس، يتمتك يا ولدي. (ياس هو إبنه الوحيد). وبعد التحقق تبين أن أبا ياس لم يسمع مدفع القصر بل سمع انفجار إطار سيارة كانت تمر بالساحة المجاورة لمبنى الإذاعة.