حين تحدثت وسائل الإعلام التونسية منذ أكثر من سنة عن وجود إمارة سلفية في منطقة سجنان شمال البلاد، تطبق فيها quot;الحدودquot; ويسجن فيها البشر كالخراف في مستودعات، وتسير فيها دوريات لشرطة سلفية تطبق شريعتها بمعزل عن الدولة التونسية ومؤسساتها، رد quot;جهابذة السياسةquot; من حكام تونس الجدد quot;الإخوانquot; بأن الأمر يتعلق بإحدى فبركات إعلام العار الذي يحن إلى العصر البنفسجي وإلى عهود الإستبداد الغابرة. وصمًت آذاننا ذاتُ الأجوبة حين حذر البعض من وجود معسكرات لتدريب الجهاديين في تونس، وتم نفي ذلك من قبل حكامنا quot;الجددquot; نفيا قاطعا رغم أن بعض النقابيين الأمنيين أكدوا ما تداولته وسائل quot;إعلام العارquot; على حد تعبير أبناء حركة النهضة.

وحين ثارت ثائرة البعض بشأن التسجيل المسرب لزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي الذي يتودد فيه إلى بعض مشائخ السلفية ويخبرهم ضمنيا أنه وإياهم في ذات الخندق في مواجهة quot;العلمانيينquot;، ويدعوهم إلى الصبر والحلم في انتظار السيطرة على قوى الأمن والجيش الذين يعتبر quot;ولاؤهم غير مضمونquot;، قيل لنا من قبل quot;الإخوانquot; بأن الكلام تم إخراجه عن سياقه وتم التلاعب بالتسجيل، الذي والحق يقال جاء ليدعم تصريحات سابقة لزعيم حركة النهضة دعا فيها إلى الصبر على الشباب التكفيري لأنهم quot;أبناؤناquot; ولأنهم يذكرونه في حماسهم بشبابه.
وحين تم استقبال من يحرضون على العنف وختان البنات من دعاة المشرق العربي والخليج، من قبل قادة من الصف الأول في حركة النهضة، وتم التنديد بقدوم هؤلاء إلى أرض التسامح والإعتدال، أرض تونس الزيتونة وأرض الطاهر بن عاشور والشيخ إبراهيم الرياحي وغيرهم، رد علينا أبناء النهضة بمعية رديفهم التيار السلفي بأنهم أحرار يستقبلون من يشاؤون على هذه الأرض حتى وإن تعلق الأمر بمن يرى معارضوهم أنهم يحرضون على القتل وسفك دماء إخوانهم المسلمين في بلاد الشام وغيرها. وزادوا على ذلك فادعوا زورا وبهتانا بأن هؤلاء الدعاة لا يحرضون على العنف رغم أن تسجيلاتهم سواء في أرض الكنانة أو في بعض إمارات وممالك خليجنا العربي العزيز تؤكد ذلك تأكيدا قاطعا لا جدال فيه.
وحين تتالت أعمال العنف بحق المعارضين والإعلاميين والفنانين التونسيين وحتى مقرات البعثات الديبلوماسية، سواء من قبل محسوبين على التيار السلفي أو من قبل رابطات حماية الثورة الذراع العنيفة لحركة النهضة، وجد هؤلاء جميع أشكال الدعم من قبل الفريق الحاكم في البلاد. فلم تتحرك النيابة العمومية لتتبع المعتدين في كثير من المناسبات، وجاءت الأحكام القضائية مخففة إلى حد يثير الريبة خلال المرات القليلة التي أثير فيها التتبع على غرار تلك الأحكام الصادرة بحق المعتدين على السفارة الأمريكية، وكذا حفظ التهمة المتعلقة بذلك الذي دعا جهارا وفي وضح النهار إلى قتل رئيس الحكومة الأسبق السيد الباجي قائد السبسي وغير هؤلاء كثر.
وزاد الطين بلة فتح باب قصر قرطاج على مصراعية لقطاع الطرق والمجرمين والمحرضين على العنف من جماعة رابطات حماية الثورة. فقد زادت زيارة صاحب المقام العالي السيد quot;ريكوباquot; وإخوانه إلى مقر الرئاسة الأولى واستقبالهم من قبل رئيس البلاد المفدى في تشجيع هؤلاء على المضي في غيهم إلى أن وصلنا إلى قتل وسحل القيادي الجهوي في حزب نداء تونس المعارض الشهيد لطفي نقض في مدينة تطاوين، والإعتداء على اجتماع نسوي في صفاقس جنوب البلاد وغيرها من صولات وجولات هذه الميليشيات العنيفة التي لم يسلم منها لا الإتحاد العام التونسي للشغل ولا الأحزاب السياسية ولا الإعلاميين ورجال الفكر والمثقفين ولا حتى عناصر أمننا البواسل حين اعتصموا في القصبة من أجل مطالب نقابية.
واليوم، وبعد أن استفحل العنف في بلادنا الخضراء وأطل علينا غول الإرهاب يضرب يمنة ويسرة بعد أن وفروا له البيئة الخصبة وشجعوه وإن ضمنيا إلى يوم الناس هذا (آخر الغيث ادعاءات وزير الشؤون الدينية بأن معتصمي باردو يستهدفون الإسلام بشعاراتهم وهو ما اعتبر تحريضا على استعمال العنف ضد هؤلاء شبيها بذلك الذي أطلقه السيد الصحبي عتيق خلال الأيام الأولى من شهر الرحمة)، يطل علينا فريقنا الإخواني الحاكم ليردد على مسامعنا، ودون حياء، أو خجل أو وجل، بأننا نتحمل جميعا مسؤولية ما يحصل في البلاد. في حين أن هذا الفريق الحاكم، وحين يتحدث عن ارتفاع معدلات التنمية (والله وحده يعلم صحة هذه الأرقام من عدمها) ينسبها لنفسه دون الحديث وإن تلميحا عن مجهود جماعي. فهم فرادى في السراء شركاء في الضراء، لا يتواضعون إلا عند الشدائد والخطوب، وهم الذين سخروا من خصومهم في أيام المجد الخوالي بمقولات من قبيل quot;جماعة الصفر فاصلquot; وquot;المنهزمونquot; في الإنتخابات وغيرها من النعوت الطفولية التي تدخل في باب quot;المراهقة السياسيةquot; والتي لا تليق بحكام يديرون شؤون العامة مؤتمنون على أمور البلاد والعباد.
إن المسؤولية عن الفشل يتحملها في جميع أصقاع الدنيا من هم في الحكم، إلا في تونس يرغب النهضويون وتابعوهم وأنصارهم في جعلها جماعية، بمنطق غريب لم يشهد له التاريخ المعاصر ولا القديم مثيلا. وقد تجسد هذا من خلال خطاب الإستقالة الذي ألقاه السيد حمادي الجبالي رئيس الحكومة السابق وأقر خلاله بفشل الجميع، حكومة ومعارضة، وأيضا في تصريحات بعض قادة النهضة بعد الكوارث التي شهدتها بلادنا في الآونة الأخيرة.
فماذا تنتظر هذه الحكومة لتستقيل بعد كل ما جرى، أن نقبع في بيوتنا وننتظر الإرهابيين ليقتحموها ويذبحوننا كالخراف؟ أم أن نمتنع عن ارتياد الفضاءات ووسائل النقل العامة خشية من عبوة ناسفة مزروعة في إحدى الجنبات؟ ألا يوجد فشل ذريع على جميع المستويات، ومن ذلك المجال الأمني الإستخباراتي الذي حذر منه الجنرال المستقيل رشيد عمار؟ هل تمتلك هذه الحكومة النهضوية استراتيجية واضحة لمكافحة الإرهاب؟ هل لديها خطة اقتصادية للإنقاذ خاصة والبلاد يتهددها غول الإفلاس الذي حذر منه عديد الخبراء الإقتصاديون؟ إلى أين نحن سائرون بحق السماء؟ وما هو السبيل لإقناع هؤلاء quot;الإخوانquot; الذين عميت أبصارهم بأننا نعيش كارثة بكل ما للكلمة من معنى؟
وحتى على فرض صحة ما يروج له حكام تونس quot;الجددquot; من تورط جهات أجنبية في مؤامرة على البلاد هدفها إجهاض ثورتنا والربيع العربي برمته (وإن كنت لا أستبعد ذلك) أفلم تستغل هذه الجهات المتآمرة أخطاء حكامنا في إدارة شؤون البلاد وعدم تحصينهم لجبهتهم الداخلية؟ ألم يجثم الإستعمار الأجنبي على صدورنا لعقود طوال في إطار المؤامرة بسبب أخطائنا؟ (سياسة التداين من الخارج التي انتهجها ملوك تونس وتفقير شعبهم من خلال كثرة الضرائب والإتاوات وقلة الإنتاج وارتفاع نفقاتهم ونفقات خاصتهم وسرقات وزرائهم مصطفى خزندار ومصطفى بن إسماعيل وبن عياد وغيرهم).
ثم إذا كان بالفعل هناك جهة أجنبية تهدف إلى زعزعة استقرار تونس سواء تعلق الأمر بدولة شقيقة يتردد إسمها كثيرا أو بدولة غربية، أو ليس هذا دليلا على فشلنا الذريع في السياسة الخارجية وعلى ضعف أداء ديبلوماسيتنا غير القادرة على إقناع الأشقاء - بأن ثورتنا لا تستهدفهم وبأنها تتكامل مع رؤاهم وتصوراتهم لمستقبل المنطقة - والأصدقاء بأن الإسلاميين في تونس قادرون على إنتاج ديمقراطية حقيقية لا تقصي الأقليات سواء السياسية أو الدينية أو العرقية وتحفظ كرامة الفرد وتحقق التداول السلمي على السلطة؟ إن السياسة الخارجية هي الخط الأول في أية استراتيجية دفاعية ومن العار على تونس أن ينزل أداء ديبلوماسيتها إلى هذا المستوى بعد صولات وجولات جهابذة في هذا المضمار خصوصا خلال الحقبة البورقيبية يتقدمهم العبقري المرحوم المنجي سليم.
ولعل المهم بعد الذي حصل هو أن لا تتأثر معنويات جيشنا الوطني الأبي القوي العتيد العريق وريث أمجاد الجيش القرطاجي الكبير الذي هيمن لعقود على الحوض الغربي لبحرنا المتوسط وجنراله حنبعل (أو هنيبعل كما يسمى في المشرق)،الذي لولا غدر ذوي القربى لكان الحاكم بأمره في أمم العالم القديم وهو الذي كان قاب قوسين أو أدنى من الإطاحة بإمبراطورية الرومان؟ على جيشنا أن يستذكر في هذه الفاجعة الأليمة التي طالت جنوده البواسل، أن أقوى جيوش العالم تعرضت لأعمال مشابهة لما تعرض له، ومن ذلك الجيش الأمريكي في الفلوجة وفي الصومال، وما حصل لا يستنقص من قوة قواتنا المسلحة ولا من كفاءة عناصرها ولا من قدرتهم القتالية.
فكل ما في الأمر أن عناصر جيشنا قد غدر بهم من قبل جبناء باغتوهم في ساعة إفطار بعد صيام يوم شاق، جبناء لا يمتلكون الشجاعة لمواجهتهم وجها لوجه ودون نصب كمائن. وجيشنا يبقى قويا عتيدا ليس لأنه وريث جيش قرطاجي قوي فحسب، بل لأنه حقق أروع النتائج في معارك الكفاح ضد المستعمر سواء في بنزرت أو رمادة أو غيرها، وهو قوي أيضا لأنه حفظ السلام في شتى أصقاع المعمورة ضمن البعثات الأممية وأدى ما طلب منه بنجاح سواء في الكونغو أو في رواندا أو كمبوديا أو ساحل العاج أو هايتي أوغيرها من البلدان. وجيشنا قوي لأنه حمى ثورة شعبه وساهم في نجاح المرحلة الإنتقالية الأولى وحفظ الحدود إبان معارك القذافي وثواره. وهو قوي أيضا لأنه يحارب الإرهاب بصدر عار باعتبار وأن السلطة السياسية شجعت خصومه ليتواجدوا في عقر داره.