من مفكرة سفير عربي في اليابان

لقد كانت الأزمة المالية لعام 2008 من أسوء الأزمات الاقتصادية العالمية منذ عشرينات القرن الماضي، وقد أدت لقرب انهيار المؤسسات المالية العالمية، وتدهور سوق الأسهم، كما أحتاجت لدعم الحكومات للمؤسسات المالية بمئات المليارات من الدولارات، وأدت لفقد الكثيرين لبيوتهم في الولايات المتحدة، ولزيادة البطالة، وهيئت الظروف لركود اقتصادي عالمي، مما أدى للأزمة المالية الاوربية، وتحديات التقشف التي تعاني منها دولها اليوم. وبعد أن دعمت الحكومات الغربية المؤسسات المالية بتريليونات من الدولارات، يبقي السؤال: ما دور هذه المؤسسات المالية في الاقتصاد الرأسمالي؟ وهل أخفقت من أداء رسالتها في التنمية الاقتصادية؟
لقد لفت نظري مقال بأحد المجلات الاقتصادية الالكترونية التي يطلع عليها السياسيين اليابانيين ويشاركون في أبحاثها، وهي المجلة الاقتصادية، quot;بروجيكت سينديكتquot;. فقد كتب البرفيسور جي برادفورد ديلونج، استاذ الاقتصاد، بجامعة بركلي الأمريكية، بكاليفورنيا، وبعنوان، تجويع البحار، يقول فيه: quot;هل استنزف القطاع المالي تدريجيا دم الحياة من الاقتصاد الأمريكي الحقيقي؟ فبوصف الصحفي مات تيبي المؤسسة المالية العالمية، جولدمان ساك، في عام 2009، بأنها البحار، مصاص الدماء العظيم، الذي خنق وجهه البشرية بدون رحمة، فمنع وصول الدم إلى أي شيء، له رائحة المال.quot;
ويعلق ديلونج بقوله: quot;صدى هذا الكلام حقيقي اليوم ولسبب مهم. فقد لاحظت في عام 2011 بأن صناعة المال والتأمين تمثل 2.8 % من الناتج المحلي الأجمالي الأمريكي في عام 1950، اما في عام 2011 بعد ثلاث سنوات من الأزمة المالية العالمية، زادت هذه النسبة إلى 8.4% ، اي بعد أسوء أزمة مالية منذ 80 عاما.quot; ويعتقد الكاتب بأن الكمية الهائلة من الثراء التي تحولت من الاقتصاد الأمريكي ألى القطاع المالي، والتي بلغت 750 مليار سنويا، لم تضف أية قيمة إضافية للاقتصاد الأمريكي في تشغيل مواطنين لكي ينتجوا بضائع مفيدة، أو يقوموا بخدمات مباشرة مفيدة، وذلك واضح جدا في الاحصائيات الاقتصادية. فلو حولت هذا المبالغ الهائلة من الثروة القومية على البضائع والخدمات المباشرة المفيدة، فربما أدت لنمو اقتصادي سنوي بقيمة 0.3%، أي بنسبة 6% لجيل 25 سنة، وبكلمة اخري انها وفرت كمية كبيرة مما يسمى الفا.
ويعلق الكاتب على ذلك بقوله: quot;مع الاسف لم يحدث ذلك، ولم توفر هذه الكمية الهائلة من الأموال أية قيمة اضافية، بالرغم من وفرة الخبرات والمؤسسات المالية، وبالرغم بأن الكثير من العقول المبدعة استنزفت في هذه المؤسسات وخسرتها الصناعات التكنولوجية المبدعة. وتصوري بأنه هناك طريقتين لزيادة المال في المؤسسات المالية، الأولي: ايجاد مستثمرين مغامرين وربطهم بأغنياء لديهم الكثير من الاموال، ولا يهتمون باحتمالات الخسارة. والثانية: ربط مستثمرين خطرين بمجموعة من الأغنياء لديهم المال وتنقصهم المعلومة والخبرة. وقد قدر الاقتصادي، توماس فليبون، والخبير المالي، اريل ريشف، بأنه خلال السنة والنصف الماضية ضاع 2% من الانتاج المحلي الاجمالي الامريكي في التضخيم الغير مجدي للقطاع المالي. ليؤكد ذلك بأن النظام المالي الامريكي هو الية لمغامرة المشاركة في المخاطرة المالية، بل هي أكثر الية لفصل الاثرياء عن اموالهم.quot;
كما أكد ذلك أيضا الاقتصادي الامريكي، بروس بارتليت، المستشار الاقتصادي السابق في ادارتي ريجن وبوش الأب، فقد بينا بان الابحاث الاقتصادية أكدت بأن هناك زيادة الكلفة في أمولة الاقتصاد الامريكي. كما أكد الاقتصادي البريطاني، ادير ترنر، بأن ليس هناك أي اثبات بأن تضخم النظام المالي خلال العقود الثلاثة الماضية أدى لزيادة التنمية الاقتصادية او للاستقرار الاقتصادي. فهناك تخوف بعد الازمة المالية لعام 2008 بأن النظام المالي المعاصر المضخم والمعقد، قد خلق خطر اقتصادي كبير، بتوجيه طاقة الاستثمارات في استثمارات مقامرة خطرة قصيرة الأمد، وهناك حاجة ملحة لتشجيع المستثمرين للتوجه لاستثمارات طويلة امد مربحة ومفيدة في تطوير الاقتصاد الوطني.
ويؤكد الكاتب بأن العالم في حاجة للواقعية لا الاوهام لكي تستطيع المؤسسات المالية هزيمة قوى الظلام الحالية أو قوى الجهل التي تغلف المستقبل. فمعظم الاصلاحات الاقتصادية التي قد تحمي ضد المخاطر الاقتصادية الكبيرة، ستحدد ايضا، قدرة النظام المالي اقناع المستثمرين الاستثمار في الاستثمارات الطويلة الامد ذي المخاطرة العالية، وبذلك تقلل الاموال الحكومية اللازمة لهذه الاستثمارات المستقبلية. وقد أكدت الابحاث العلمية بأن المؤسسات المالية قوية بلوبياتها السياسية في الكونجرس، بحيث لا تستطيع مؤسسات الدولة المنظمة التقليل من قوتها في خلق نظام مالي استثماري عالي المغامرة والخطورة. فلم تنجح جهودها في خلق بيئة استثمارية سليمة، تمنع المغامرة الخطرة في الادوات المالية المعقدة، التي كانت السبب في الأزمة المالية لعام 2008. كما تنمحي العلاقة بين التنمية الاقتصادية مع زيادة الاستثمارات المالية، حينما يتحرك النظام المالي في نقل التعاملات المالية إلى ادوات مالية معقدة، بالإضافة بأن الفائدة المجتمعية من الاستثمارات في المؤسسات المالية قد اختفي خلال الجيل الماضي.
ونتيجة لكل ذلك بينت دراسة للكاتب في عام 2007، بأن العالم قد دفع للمؤسسات المالية حوالي 800 مليار دولار سنويا في معاملات دمج الشركات وشرائها، وكانت النتيجة ربحية قدرت بحوالي 170 مليار دولار فقط، بينما خسر العالم 630 مليار دولار. ويؤكد الكاتب بأن للدولة دور كبير في التعليم وتنظيم المؤسسات لمعرفة الخطر لمنع أن يخسر العالم ما قدره سنويا 630 مليارا في المؤسسات المالية، وبدون مبرر حتى الان.
ومن الواضح بأن المؤسسات المالية تنظر لمصالحها في احتكارات مستقرة، وفي ايدي القلة، مع ربحية عالية، بينما تكون المصلحة المجتمعية للمواطنين في سوق تنافسية، وبربحية قليلة، وبمخاطرة منخفضة النسبة. وكلما قلت الثقة في الحكومة في منع هذه الاحتكارات المغامرة، كلما زادت الثقة بالحاجة لزيادة الضرائب لمحاربة التباين في الثراء. وقد اعتقدت الجماهير الشعبية في القرن الثامن عشر بان الفلاحين هم الفئة المنتجة في المجتمع، بينما كان التجار فئة تسرق الانتاجية لتحقق ارباح خيالية وبجهود قليلة. واعتقد الماركيسيون في القرن العشرين بأن القوى العاملة هي القوى المنتجة، وفي الحقيقة أن الاثنان خاطئين، فدعونا ننظم المؤسسات المالية حتى لا يخسر المستثمرون الخارجيون، ودعنا نمتع من التخوف من المؤسسات المالية كثيرا. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل حان الوقت لتنظيم المؤسسات المالية في المنطقة لحمايتها من المضاربات والإفلاس، ولتلعب دورا في رأسمالية ذات مسئولية مجتمعية لتحافظ على الاستقرار وتحقق التنمية المستدامة ؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان