بعد غياب دام اكثر من نصف سنة، لم يعد الرئيس المريض جلال طالباني عرابا للعملية السياسية المجمدة في العراق ولا راعيا لرئاسة الدولة المشلولة بعليله وبغير مرضه وبانفراد نوري المالكي بالحكم وبانهيار الوضع الأمني في بغداد وبعض المحافظات، ولم تعد بغداد تنتظر عوداته المتكررة من عاصمة الثقافة الكردية السليمانية بين الحين والآخر لتستقبله باشتياق وتستمع لنكاته وشهقات ضحكاته الملفوفة بطيبة وبساطة كردية أصيلة، ولم يعد الساسة ورجال الحكم الفاسدون في العاصمة الاتحادية من الشيعة والسنة والكرد على موعد مع الرجل الذي احتضن الغالبية منهم في سهول وجبال كردستان أيام النضال ضد استبداد وطغيان نظام حكم البعث البائد، ولم يعد حزب الاتحاد الوطني الكردستاني المؤسس على يديه في زمن انتكاسة الثورة الكردية ولا قيادة الحزب ولا جماهيره على موعد مع الزعيم والقائد المخضرم الذي غرز مظاهر التعددية والتنوع الحزبي في واقع المجتمع السياسي الكردستاني وزرع خصال الحرية والتنوع الفكري ومفاهيم حقوق الانسان ومزايا التعايش المتنوع المشترك وسمات التسامح في مكونات الشعب الكردي على مدى نصف قرن من زمن الحركة الثورية الكردية.

واليوم وبعد مرور فترة طويلة على فراغ كرسي الرئاسة في بغداد وتناقض التصريحات الصادرة من اطراف كردية وعراقية بشأن صحة الرئيس طالباني، وتولد تأثيرات كبيرة ومتنوعة لهذا الفراغ الكبير للزعيم المخضرم المحبوب عراقيا وكردستانيا، وخاصة منها تأثيرات سلبية على مجريات العملية السياسية والية حكم الدولة والحكومة وبروز انفراد ملموس لرئيس الوزراء نوري المالكي، وتولد تأثيرات غير مريحة للواقع السياسي في اقليم كردستان وظهور تأثيرات غير مطمئة على الحضور الميداني والسياسي للاتحاد الوطني في الواقع الكردستاني، ومن واقع الايمان بالمصداقية والتعامل على اساس الحقائق مع الشعب ومع جماهير الحزب، فان ضرورات الواقع السياسي وتوالد الأحداث على الصعيدين العراقي والكردستاني يلزمان اللجوء الى الصراحة وكشف الحقيقة بشأن صحة الرئيس جلال طالباني.
وما يطرح حتى الان من معلومات وتقارير بصدد صحة الرئيس مازالت بحكم الغموض واطار اللغز المحير، وبسبب اطالة فترة الشفاء والمعالجة واطلاق تأكيدات بتحسن صحة الرئيس من قبل مصدر معلوماتي محدد دون أدلة مرئية وغير مرئية، فان الحالة المحيطة بالرئيس طالباني قد زرعت شكوكا كبيرا والغازا محيرة لدى السياسيين في العاصمتين بغداد واربيل ولدى العراقيين بصورة عامة ولدى الكرد بصورة خاصة.
ورغم اطلاق الوعود من قبل مقربين من عائلة الرئيس ببث مقاطع فيديو او صوتية خلال الفترة المنصرمة، الا ان الغموض الذي يسري بواقع صحة الرئيس مازال جاريا ومازال ساريا حتى الساعة، وما زال العراقييون يعيشون هاجس الرئيس الغائب، ومازال الكردستانييون وجماهير حزب الاتحاد على لهفة وشوق للاستماع الى صوته او مشاهدة صور حية عن حقيقة حالة الرئيس الصحية، وعدم ظهور الرئيس لحد الان بمشهد فيديو او بكلمة حية موجهة الى جماهير حزبه في الحملة الاعلامية الجارية للانتخابات البرلمانية في 21 أيلول ترك بصمات غير مبشرة بالخير والاخبار الطيبة عن صحة وحالة الرئيس.
والمشكلة على ما تبدو لنا ان قيادة حزب الطالباني الاتحاد الوطني الكردستاني لم تتعامل مع قضية الحالة الصحية لرئيس البلاد بابعادها العراقية والاقليمية ووفق مراعاة الحسابات السياسية برؤيتها الواقعية والاستراتيجية، بل تعاملت مع المسألة فقط بابعادها الكردستانية، ولهذا لم تكن المعلومات المتوفرة عن حقيقة صحة الرئيس كافية للاجابة على كل الطروحات والأسئلة التي طرحت عراقيا على الصعيدين السياسي والاعلامي، وبسبب الحضور الكبير والمميز والفعال للرئيس طالباني على الساحة السياسية في العاصمة الاتحادية فان مرضه المفاجيء وسفره الطويل للمعالجة تركا فراغا ثقيلا على واقع العملية السياسية في العراق وفي اقليم كردستان.
وبغية ايجاد رؤية واقعية للتعامل مع قضية صحة الرئيس ورفع الغموض وازالة الشكوك عن حالته المرضية، وحاجة الكردستانيين والعراقيين الى اطمئنان موثوق بشأن صحته، وحاجة حزب الاتحاد الوطني وجماهيره الى دعم معنوي وهو يخوض الانتخابات البرلمانية بقائمة مستقلة عن حزب رئيس الاقليم مسعود البرزاني، فان الضرورات الوطنية العراقية والكردية تحتم على قيادة حزب الطالباني اختيار بديل عن الرئيس لملء كرسي الرئاسة في العاصمة الاتحادية لاعادة التوازن الى معادلة الرئاسات الثلاث في حكم الدولة العراقية والموزعة على اساس المحاصصة بين الشيعة والسنة والكرد.
ولا ينكر ان الغياب الطويل للحضور الفعال للرئيس طالباني قد تسبب في احداث ازمات عديدة وخلافات سياسية حادة وخلق حالة من التوتر والتأزم الشديد بين الكتل البرلمانية، بسبب غياب راعي العملية السياسية في الواقع العراقي، وهذا ما جعل البلاد ان يدخل في حالة من عدم الاستقرار سياسيا وأمنيا مما نتج عنها توتر العلاقة بين اغلب الاطراف، وان يشهد البلاد انهيارا أمنيا، وهذا ما دفع بالعراقيين ان يعيشون في حالة من اليأس الشديد وفي ظل حياة غائبة عنها أغلب مصادر الخدمات الاساسية والحاجات الرئيسية الحياتية والمعيشية للانسان.
ولهذا ولكي لا يطال فراغ كرسي رئاسة البلاد ولكي تتم ازالة كل الشكوك والغموض، حان الوقت بجدية امام قيادة حزب الطالباني لتبني خارطة طريق لاختيار خليفة للسكرتير العام وثم اختيار بديلا عنه لرئاسة الدولة في العاصمة بغداد، وبغية طرح الرأي من باب التواضع بهذا الصدد فان خير من يخلف الرئيس طالباني في الحزب هو نائبه كوسرت رسول علي وهو منقذ الحزب في الاوقات العصيبة، وخير من يخلفه في رئاسة العراق هو اختيار شخصية من ثلاثة معروفين هم د.نجم الدين كريم ود.فؤاد معصوم ود.برهم صالح، وبالتأكيد فان اختيار احد هذه الشخصيات سيحظى بالموافقة والتأييد من قبل الاطراف السياسية الشيعية والسنية، وهذه الرؤية خير ما يخرج بها حزب الطالباني للعراقيين والكردستانيين ولجماهيره ضمانا لاعادة الحياة الى العملية السياسية في العاصمة الاتحادية وتحريكها للوصول الى حلول عاجلة لاستقرار الوضع سياسيا وأمنيا في بغداد وفي عموم المحافظات.
وهنا لابد من القول إن قيادة الرئيس جلال طالباني بحضوره وغيابه ومرضه سيبقى راسخا وقويا في وجدان اي انسان عراقي وفي قلب اي انسان كردستاني، والحضور التاريخي لهذا الزعيم المناضل لا يسمح بطرح الغاز محيرة بهذه الصورة عن مصيره وحياته التي يهم كل العراقيين والكردستانيين، وعندما تصل الامور الى طرح الشكوك ورسم الغموض عن مرضه وصحته ويتم صد ابواب الحقيقة امام اهتمام الشعب بمعرفة الحالة الصحية عن رئيسهم فان الحالة تلزم وقفة جدية لاعادة النظر في الواقع المرسوم، ولهذا فان الضرورة الوطنية والانسانية والسياسية تلزم اللجوء الى خيار اختيار الحقيقة والتعامل بمصداقية مع مفردات الحدث، والتاريخ المشرف لهذا الرجل المناضل طوال سنين حياته لا يسمح برسم هذا الغموض المتعمد حول مصيره وحياته وصحته، ولهذا ومن باب النية الخيرة يرجى من قيادة الاتحاد الوطني اختيار الطريق السليم لازالة الغموض المحير عن الرئيس طالباني دفعا لتقديم خدمة جليلة للعراق وللاقليم وللحزب، وبالتأكيد فان اختيار الخيار الصائب سيشكل عاملا حاسما لإحداث فرج سياسي كبير في واقع العملية السياسية لصالح العراقيين والكردستانيين على السواء.
كاتب صحفي ndash; كردستان العراق