مهم جدا ما قام به عناصر أجهزتنا الأمنية في تونس من جهد كشفوا من خلاله الشبكات الإرهابية التي روعت البلاد خلال الفترة الماضية. ومن واجبنا جميعا أن نشد على أياديهم ونشكر سعيهم ونرفعهم على الأعناق إذا اقتضى الأمر ذلك. فهم أبناء هذا الوطن وحماته الذين يذودون عنه ويتصدون للمتربصين به في الداخل والخارج. وما أنجز بالفعل ودون رمي للورود هو مدعاة للفخر بمؤسستنا الأمنية ورجالها البواسل الذين تضافرت جهودهم مع جهود أبناء جيشنا وعناصر حرسنا الوطنييْن الذين لولاهم أيضا لما تم تحقيق هذه النجاحات.

لكن ما تمت إماطة اللثام عنه، مؤخرا من قبل وزارة الداخلية، ماهو إلا الجزء الظاهر من جبل الجليد الذي لم يشكف عنه بعد، لأن ما خفي أعظم. ويتعلق الأمر بالجهات التي مكنت هؤلاء البيادق المغرر بهم من شباب تونس ممن ينتمون إلى تنظيم أنصار الشريعة السلفي، من المال ومن الدعم اللوجستي حتى ينجحوا في إرهاب مواطنيهم واغتيال سياسييهم وذبح وإصابة جنود بلادهم البواسل وحماة أوطانهم. من المؤكد أن هناك جهة داخلية أو خارجية مولت هذه العمليات وسهلت اتصال عناصر هذه الجماعات ببعضهم البعض كما قامت بتسهيل دخولهم وخروجهم من بين القطرين التونسي والليبي كما مكنتهم من التدرب على حمل السلاح واستعماله.
لسنا بالسذاجة التي تجعلنا نعتقد ولو للحظة بأن هذا الشباب البسيط في عمومه والمفتقد إلى زاد معرفي كاف، وجاهل بأمور دينه ودنياه وغير المؤهل إجتماعيا للإندماج في محيطه، قادر بمفرده على القيام بجميع تلك الأعمال دون أن تقدم له جهة ما تسهيلات بالجملة. وهذه الجهة يمكن أن تكون داخلية تعيش quot;بين ظهرانيناquot; أو خارجية تتربص بنا وتهدف إلى زعزعة استقرار بلادنا الخضراء أو أن الأمر يتعلق بعدو خارجي له امتداداته في الداخل بعد أن تقاطعت مصالح الطرفين. وما يؤكد هذا الطرح ما ورد في الندوة الصحفية لوزارة الداخلية حيث تم الحديث عن أسلحة وعن أموال يجند بها ضعاف الحال والعاطلون عن العمل وعن آلات لتزوير رخض السياقة وأشياء أخرى تبدو بحاجة إلى جهة نافذة لديها ما يكفي من المال والعلاقات لتسهيل عمل هذا الشباب المغرر به.
كما أن جماعة أنصار الشريعة هي جماعة حديثة العهد فيما يتعلق بالنشأة ولا يعقل أن تتمكن في هذا الظرف الوجيز من التنظم وإحداث الأجهزة القادرة على أخذ القرار والتخطيط والتنفيذ بمفردها ودون يد خارجية (أي من خارج التنظيم). ولا يعقل أن يتمكن عناصرها في هذا الظرف القياسي من فهم أدوارهم بدقة وأن لا يحصل تداخل في المهام فيما بينهم وعدم انضباط، على غرار التنظيمات الدولية التي تمتهن الجريمة المنظمة. إذ من المؤكد أن هناك جهة ما على درجة عالية من الإحترافية تقوم بتوجيههم وتنظيم عملهم وتجلى ذلك في quot;مهارتهمquot; في القيام بعمليات الإغتيال من خلال التخطيط الجيد وسرعة الفرار من مسرح الجريمة دون ترك آثار أو طمسها في مرحلة لاحقة والتواري عن الأنظار. كما يتجلى في دقة اختيارهم لمواعيد الإغتيالات التي تتزامن في الغالب مع الأزمات السياسية التي تعيشها البلاد ارتباطا بالظرف الدولي ما يجعلهم بامتياز منفذين لأجندات هم في الغالب غير مدركين لمضامينها.
مما لا شك فيه أن التراخي الأمني مع الإرهاب كان سببا في انتشاره خلال السنتين الماضيتين. ومما لا شك فيه أيضا أن هذا التراخي تتحمل مسؤوليته السلطة السياسية، ممثلة بحركة النهضة الإخوانية، وليس مؤسستنا الأمنية التي أثبتت الوقائع أنها قادرة على الضرب بقوة متى توفرت الإرادة السياسية. وهذه الإرادة لدى حكام بلادنا الجدد من آل النهضة لم تتوفر إلا بعد حادثة إحراق السفارة الأمريكية خوفا من بطش الحليف الأمريكي وأصدقائه الأوروبيين ورفعهم لغطاء الدعم عن بقاء النهضويين في الحكم، وأيضا بعد أن بلغ السيل الزبى بتتالي الإغتيالات التي طالت في النهاية أبناء مؤسستنا العسكرية البواسل لحظة أدائهم للواجب. أما قبل ذلك فقد كان القوم (الإرهابيون) في نظر صقور الفريق الحاكم مجرد فزاعات يستعملها جماعة الصفر فاصل (نعت يستعمله من أصابهم غرور الفوز في الإنتخابات في تونس من الإخوان على معارضيهم بالنظر إلى النتائج التي حصدها العلمانيون في الإنتخابات) لزعزعة حكم النهضة ويوظفها إعلام العار (نعت تصف به حركة النهضة منتقديها من الإعلاميين) لتشويه صورة الحركة quot;الإسلاميةquot;. كما أنهم في نظر جهابذة السياسية في هذا العصر مجرد شباب يمارس الرياضة في الجبال (رئيس الحكومة علي العريض حين أبلغوه بوجود معسكرات لتدريب الإرهابيين رد بأنهم شباب يمارس الرياضة قبل أن يتورطوا في ذبح جنود من الجيش التونسي) وفي نظر كبار قومنا quot;أبناؤنا الذين يذكروننا بشبابناquot; (عبارة شهيرة وصف بها راشد الغنوشي التكفيريين في وقت سابق) ويتحمل مسؤولية تطرفهم النظام السابق وضحاياهم من الإعلاميين والمفكرين والأساتذة والفنانين وغيرهم.
لقد عرفنا إذن من قتل شكري بلعيد ومحمد البراهمي و ذبح عناصر جيشنا و بتر أرجلهم، لكنهم لم يرغبوا في إطلاعنا عمن أخذ القرار وسهل للإرهابيين ومولهم، ولنفترض جدلا حسن النية، ونوهم أنفسنا بأنهم لم يتوصلوا بعد إلى هذه الجهة المجهولة ونطلب بكل لطف من أجهزة استخباراتنا أن تتحرر من السياسيين ومن التعليمات وتكشف لنا في قادم الأيام عمن يقف وراء تنظيم أنصار الشريعة ويمده بالمال والعتاد في عملياته بحق أبناء جلدته وإن كنا على يقين بأن ذلك لن يحصل. فببقاء هذا الطرف مجهولا يصبح ما تم تقديمه من معطيات من قبل وزارة الداخلية بلا معنى، وهو ما يجعل مصداقية الفريق السياسي الحاكم تزداد تآكلا وهي المتآكلة أصلا. كما أن الكشف عن جميع تلك المعلومات من قبل الوزارة يصبح أيضا بلا معنى إذا لم تبادر الحكومة وخصوصا رئيسها إلى الإستقالة لأنها باتت عنوانا لهذه الإخفاقات.