لا يستطيع العقل العربي العيش ولا التفكير حارج صندوق أدواته التقليدي الذي يطفح بالتناقضات التي كثيراً ما تلامس حدود اللامعقول وتتجاوزه إلى العبث وللا منطق، وبرغم التطور الدائم في الذي تشهده عمليات بناء المقاربات الذهنية للقضايا المعاصرة بهدف الوصول إلى الأفكار الأكثر جدوى وفعالية، يشهد العقل العربي تراجعاً دائماً في هذا المضمار، وهو ما يعكس صورة التراجع على كل المستويات والمواقع.
تبرز حالة التدخل الغربي لتخليص السوريين من مأساتهم الصورة المشار إليها بامتياز، فعلى أي أساس، مثلاً، يبني معارض لأفعال النظام السوري ومستنكر لأساليبه في قتل السوريين، رفضه مسألة التدخل الخارجي؟. طالما أن الغاية منها إنهاء تلك الحالة المنافية للقيم والمنطق الإنساني؟.
من الناحية العملية لم تكن هناك ثمة إمكانية أو مجال للقضاء على مثل هذا النمط من الأنظمة من دون عملية تدخل خارجي، ليس استخفافا بقدرات السوريين، على ما يحلو للبعض جلد أنفسهم، ولا لأن هذا النظام يملك قدرات إسطورية على ما يزعم مؤيدي النظام وأتباعه، بل لأن هذا النظام يرتبط بقوى خارجية، بل أنه يجري تشغيله من قبل هذه القوى لدرجة صار معها مجرد وكيل ومنفذ لأمر عملياتها، مقابل ذلك أمنّت تلك القوى طوال الفترة الماضية أسباب بقاءه وصموده في مواجهة الثورة السورية، ودافعت عن استمراره بارتكاب كل الجرائم بحق السوريين وتغطيتها وإيجاد التبريرات المناسبة لها.
ولا شك بأن هذه الوضعية تفوق قدرة السوريين الثائرين على تحقيق الخلاص من هذا النظام، إذ صار من المسنحيل كسر حلقة التوازن الدموية المستمرة، والتي كلفت السوريين أثماناً باهظة، والتي، أيضاً، تنذر بمزيد من التفكك والتدمير للعمران الوطني السوري، الإجتماعي والمادي، طالما أن هذا النظام تقف وراءه أطراف على إستعداد دائم لتدعيم قوته النارية وحاجته البشرية من المقاتلين، فقد تكشّف تماماً أن هذه الدائرة الخارجية لا يمكن أن تكسرها سوى قوى خارجية مثلها، فيتحقق بناءً عليها شرط إسقاط النظام.
دع عنك كل ما يقال عن الخسائر التي يتسببها استمرار مثل هذا النظام على سورية من موارد إقتصادية وأرواح بشرية، على أهميتها، بل لأنه بدأ يحول سورية إلى أرض للفوضى ويرعاها ويصنعها أحيانا كثيرة، بل أنه لم يكتفي بذلك، وإنما راح يتطاول بالعبث في العيش المشترك لدول الجوار ويهدد بتفجيرها وكأن المنطقة كلها ملك يديه وتحت أمره. ثم ماذا ينتظر رافضي التدخل الأجنبي من مثل هذا النظام لو أنه تجاوز هذه المرحلة، هل يحمل غير الوعد بالموت الدائم؟.
من الناحية الأخلاقية، لا يستند مثل هذا الاعتراض أو التردد لأي مبرر أخلاقي بقدر ما يبدو أنه رضوخ أو إنسياق لتهويمات أيديولوجية وقوالب كلامية يفترض أن الثورة السورية قد عرّتها وكشفت ضعف أسانيدها ومقدرتها الواقعية على الصمود وحمولتها الأخلاقية الزائفة، والتذرع بالوقوف إلى صف النظام في مواجهة قوى إستعمارية، بغض النظر عن واقع المتغيرات الدولية والعلاقات الاعتمادية وتبدل التحالفات والعلاقات، وكأن الأنظمة( الوطنية) المراد تغييرها لم تعتش على الخدمات القذرة التي تقدمها لهذا الغرب الإستعماري، وخاصة النظام السوري الذي ماانفك يحمل مصائب المشرق ويبحث عمن يوكله إدارتها، بل أن في سجلاته الكثير من التفاخر بهذه الوظيفة القذرة ورهان دائم على عدم استغناء الغرب عن قيامه بهذه المهمة.
هذا التبرير السابق يبدو متورطاً وغارقا في الانتهازية إلى أبعد الحدود، وتفنيده ممكن من قلب الوجع السوري وليس بعيداً عنه، إذ أين البديل لوقف القتل والتدمير بسوريا؟.ولعله من باب التندر، أن نظاماً تطفح منظومة قيمه بسلوكيات النهب والسلب والقتل، ولا يوجد ثمة ما يؤشر على نيته مغادرة هذه المنظومة القيمية والإقلاع عنها، يجري الدفاع عن استمراره بحجة الوطنية ومعاداة الاستعمار، دون التساؤل عن الفرق بينه وبين الإستعمار، إلا اللهم أن شعوب المستعمرات لها الحق بالتمتع بشكل قانوني ما إسمه قانون المستعمرات.
لعل المشكلة في هذه العقلية، عقلية رفض إجرام النظام ورفض المساعدة للتخلص منه، أنها مصابة بلوثة الإزدواجية في كل القضايا المصيرية والحاسمة، ومن خلال قراءة الكثير من النصوص التي أنتجها العقل العربي على مدار مرحلة الربيع تبين المساحة الرمادية الهائلة وفائض اللامعقول التي يملكها العقل العربي والتي غالباً ما يكون مصدرها المشاعر والأحاسيس اللاعقلانية من غرائز ما قبل أدمية ومحاكمات ساذجة يتم صبها في سياقات فكرية معينة وتصديرها بوصفها مواقف عقلانية وهي في الواقع ليست سوى مجرد تهويمات.