عندما يبدأ المرء كتابة ذكريات طفولة مر عليها اكثر من نصف قرن يكون تسلسل الأحداث مشوشاً بعض الشيء. من منا فكر وهو طفل انه سيترك بيته، حارته، بلدته، وطنه..... من منا كطفل أو كمراهق فكر في أن يأخذ ملاحظات أو رؤوس أقلام ويحتفظ بها لتساعده يوما ما في أن يتذكر!. حتى الصور مع أصدقائنا والتي كانت لدينا حرقناها أو لم نأخذ منها إلا القليل في هجرتنا من العراق.

يقول الأديب المرحوم إسحق بار موشيه في كتابه quot;بيت في بغدادquot; عن ذكريات الطفولة:
quot;وعندما أتطلع إلى الوراء بنظرة ثاقبة استطيع أحيانا استجماع التفاصيل وقد افشل أحيانا، وعندما اصل إلى التفاصيل يضيع أحيانا كثيرة، التسلسل الصحيح للأمور. وعندما أضع التفاصيل الواحد إلى جانب الآخر، فقد اصل إلى التسلسل المنطقي وقد لا اصل. ولماذا يا ترى عندما اصل إلى ما أراه تسلسلا منطقيا وطبيعيا، يهاجمني الشك وكأنه كان يكمن لي وراء الباب. لماذا يعذبني هذا الشك دائما؟ أليس من الفضل أن احكي ما أتذكره وما أنا متأكد منه مهما كان مكانه في السلسلة، وسواء أكان مكانه في المقدمة أو المؤخرةquot;.
عندما فكرت في كتابة سلسلة شارع الذكريات، كان لي خياران، أولهما أن أدون كل ما يخطر لي من ذكريات ثم أحاول أن أرتبها زمنياً قدر المستطاع قبل أن أنشرها على الشبكة العنكبوتية أو في كتاب. والخيار الثاني هو أن أدون على قصاصات الورق ملاحظات غير مرتبطة ثم اختار بعضا منها بين الحين والآخر لابني عليها ذكريات ثم أنشرها، متى سنحت لي الفرصة، وبدون أن أتحدد زمنياً. هذا ما اتبعته حتى الآن وسأتبعه.
-----------------
هناك صورة انطبعت في ذهني كأنها البارحة، وانا ابن السابعة. والدي يجلس في البيت مريضا بالأنفلونزا، درجة حرارته عالية، انفه يشح، لكن أمامه مذياع كبير وهو يستمع إلى خطاب حماسي لعبد الناصر من إذاعة صوت العرب. لا أذكر أن كان عبد الناصر يعلن عن تأميم قناة السويس أو يتحدث في حرب السويس في 1956. لم يكن والدي يستمع للخطاب فحسب بل كان يدونه كلمة كلمة، بسرعة فائقة، وينهي الورقة واحدة تلوى الأخرى. في باب الدار ينتظر ساعي البريد من جريدة البلاد في سيارة أجرة ليأخذ حزمة من الأوراق المدون عليها الخطاب إلى مطبعة الجريدة لتطبع وتنضد. ثم يرجع هذا الساعي لكي يأخذ حزمة أخرى ليسافر بها و تكررت هذه العملية عدة مرات حتى انهى عبد الناصر خطابه وانهى والدي تدوينه. طبعا quot;داعيكمquot; كان ساعي البريد من طاولة والدي إلى باب الدار. كان والدي فخوراً أن جريدة البلاد صدرت في الصباح وهي الصحيفة الوحيدة، كما اعتقد التي حملت خطاب عبد الناصر بأكمله.
------------------
ها أنا أعود إلى سنة 1959 ونحن نعيش في ظل حكم عبد الكريم قاسم quot;الزعيم الأوحدquot; الذي استطاع أن يوقف المد القومي الناصري في الأشهر الأولى من الثورة والمد الشيوعي بعد أحداث كركوك في تموز من هذا العام. في هذه السن الصغيرة (وانا لم أتجاوز العاشرة) وبالرغم من quot;نضجي السياسيquot; مقارنة بأصدقائي، لم اكن افهم بالطبع حجم الصراعات السياسية والعنف الذي بدأ يستشري في المجتمع العراقي والكراهية التي يضغنها كل تيار للآخر. كان والدي يؤمن بالأفكار الاشتراكية التقدمية المعتدلة التي ربما اقرب من مثّلها المفكر عبد الفتاح إبراهيم والحزب الوطني التقدمي بزعامة محمد حديد الذي انشق من الحزب الوطني الديمقراطي بزعامة كامل الجادرجي. لكن بمرور الزمن فقدت أحزاب الوسط التي تؤمن بالتمثيل البرلماني إمكانية التأثير على الصعيد السياسي والشعبي. اصبح هناك معسكران، سأحاول أن أصفهما بصورة مبسطة - المعسكر الأول يضم الشيوعيون والأكراد، متعاطفون معهم التيارات التقدمية، الليبرالية، العلمانية والطبقات الفقيرة في بغداد وفي الجنوب الشيعي، والمعسكر الثاني يضم البعثيون والقوميون / الناصريون، متعاطفون معهم الأحزاب الإسلامية (السنية والشيعية) وعشائر الشمال والوسط السنية.
كان جمال عبد الناصر يكن العداء لقاسم بعد أن عارض الأخير، وبمساندة الشيوعيين، في أن ينضم العراق إلى الجمهورية العربية المتحدة، كما أراد عبد السلام عارف ومن وراءه البعثيون والقوميون، بعد قيام ثورة 14 تموز. ابتدأ كل طرف يتهم الآخر بحياكة المؤامرات وتأييد الانقلابين في العراق أو الانفصاليين في سوريا. كانت إذاعة صوت العرب البوق الذي استعمله عبد الناصر للهجوم على الأنظمة المناوئة له، وكان احمد سعيد اشهر مذيع مصري في حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي مديرا لها.
-----------------
بطبيعة عمل والدي الصحفي كان يستمع إلى هذه الإذاعة والى ما يقوله احمد سعيد وهو يقدح يوميا مسبات وشتائم لعبد الكريم قاسم والشيوعيين على الأخص. في مساء احد الأيام وهو يستمع إلى احمد سعيد وهو يصرخ، بدأ والدي يضحك بلا توقف وينادي لوالدتي أن تأتي وتستمع لما يقوله هذا المذيع المصري. عند وصول والدتي إلى المذياع بدأت هي الأخرى بالضحك وان لا أفهم ماذا يجري. كان صوت احمد سعيد يلعلع بفاجعة اعتقال سلطات عبد الكريم قاسم الرفيقة المناضلة القومية الشريفة quot;حسنه ملصquot; والمناضل العروبي العنيد quot;عباس بيزةquot; . بدأت اسألهم :لماذا تضحكون؟ لماذا تضحكون؟quot;. فأجابني والدي مبتسماً أن هذا مقلب عراقي أصلي بلعه احمد سعيد. فلما استفسرت ماذا يعني، اخبرني وانا طفل بريء، وبصورة معينة، بان كل العراقيين يعرفون أن حسنه ملص هي عاهرة وقوادة بدرجة امتياز وعباس بيزة قواد. وحسبما ما اتضح أن بعض العراقيين quot;المشاغبينquot;، الذين ضاقوا ذرعا بهذه المسبات والتلفيقات التي كانت تبثها إذاعة صوت العرب، ارسلوا إلى احمد سعيد برقيات مفبركة مفادها أن الشيوعيين قد القوا القبض على نصيرة العروبة المجاهدة ( حسنة ملص ) وراحوا ينكلون بها وبشرفها. وبدون أن يستبين الحقيقة قرر احمد سعيد أن ينشر هذا الخبر وبدأ يزعق بهذه المصيبة ويردد لأيام quot;إذا ماتت حسنة ملص فكلنا حسنة ملص !quot;، quot;كلنا عباس بيزة ... من المحيط إلى الخليج.quot;
-----------------
quot;قرأت قبل أيام قصيدة لشاعر عراقي شعبي اسمه رحيم المالكي كان قد قتل في احدى التفجيرات في بغداد بعنوان: quot;رسالة إلى الدكتورة حسنة ملصquot;، يصف فيها وضع سياسي قل فيه الشرفاء:
ياهو المنج اشرف خاطر اشكيله
ددليني يحسنة وباجر امشيله
امشيله واسولف كل حجي المضموم
كَبل حفاي كَالوا هسه ماكو اهدوم
بيتي من القنابل والقصف مهدوم
وحكومه بلا حكومه بغير تشكيله
تنازع عل كراسي والشعب حفاي
وبشرج لا غذا لا كهربا لا ماي
إحنا أهل النفط والكاك عند زلماي
ياحسنة الحكومة تكَدر تشيله
------------------
وعلى ذكر إذاعة صوت العرب واحمد سعيد، سأقفز لبرهة إلى منتصف سنة 1967. لست انسى كيف كان صوته يلعلع من هذه الإذاعة في تلك الأسابيع التي سبقت حرب الأيام الستة. كان يعلن قرب القضاء على دولة العصابات، الدولة اللقيطة إسرائيل. كنا نستمع اليه وهو يعيد جملة quot;سنلقيهم في البحرquot; التي نادى بها احمد الشقيري رئيس منظمة التحرير الفلسطينية. كانت هذه الإذاعة تردد كل يوم أنشودة تقشعر لها الأبدان (اعتقد أنها سورية الأصل):
اذبح اذبح اذبح اذبح اذبح اذبح
اذبح كل الصهيونية ولا تخلي بقلبك حنية
قد ما فيك ياخي اذبح
اذبح اذبح اذبح وارم رقابهم بالبرية
اذبح اذبح اذبح واشنطن خليها تنبح
في اليوم الأول للحرب اعلن احمد سعيد بيانات عسكرية كاذبة تخبر عن انتصار ساحق لمصر وعن إسقاط عشرات الطائرات الإسرائيلية في الوقت الذي تم فيه قصف للطائرات المصرية وهي على الأرض وقبل أن تقلع من المدارج!