لو كنا نفهم الحب الإلهي كما عبرت عنه رابعة العدوية ومن صار على دربها لتغيرت كثير من الأمور في حياتنا جميعا.. لكن دون جدوى؛ فأحلام وطموح رجل السياسة المقنع بغطاء ايديولوجي لا تسمو إلى مستوى طموح وأحلام رابعة العدوية، فالفرق كبير بين من يحب كرسي السلطة وبين من يحب رب آية الكرسي ! وأحلام وطموح من يعبد الله عن حب ليس كمن يعبده لتحقيق مأرب فانية.

***

إن الهمسات الرقيقة التي انبثقت من رابعة العدوية المتوفاة عام 175هـ قد صقلت الحياة الروحية الإسلامية في هذا العصر.. حيث جعلت التعبد والزهد والخوف عبادة صامتة، ودموعا تغسل الخطايا، ولا أعتقد أن اسلاميي اليوم يعرفون معنى العبادة الصامتة كما عرفها أجدادهم، فجهاد النفس هو معنى وجودي وروحي يحرص على بناء الفرد المتوازن وأكثر!

أما النفس الجامحة فلا تترك وراءها إلا الخراب.. وعقول مفخخة قابلة للانفجار في أية لحظة.

***

لقد حطمت السيدة رابعة العدوية الناي الخشبي التي حملته من قبل في حياتها الصاخبة الدنيوية، وكسرت أوتاره؛ لتعود إلى الناي الرباني في أعماق قلبها؛ وانشدت على أوتاره الفطرية أنشودة الحب الإلهي، وكأنها توحي لمن أراد الفلاح فعليه أن يكسر سحر اللامعنى في بصيرته، حتى تحل محله الأنوار الربانية فيرى الحق حقا ويرزقه الله اتباعه.

انهم يحبون أن يجردوا الإنسان من كل روحانية في الفكر والسلوك.

***

وفي كلام رابعة العدوية - وليست رابعة المشوهة في السينما - مع الأسف - وإنما رابعة التي احرق قلبها شوقا إلى ربها - نجد إحساسا راقيا.. وعبودية بذوق..عز نظيرها، فقد اعتبرها الصوفيه في أعلى منازل الرضا والحب والخلة.

ها هنا معنى قريب جدا لإشارات رابعة العدوية بقولها : ما عبدتـه خوفا من ناره، ولا طمعا في جنته، فأكون كأجير السوء ndash; إن عمل طلب الأجر ndash; وإنما عبدته حبا فيه وتقربا إليه.. ومن البديهي، يعلق د. يوسف زيدان على إشارات رابعة العدوية أن إيمان المحب وعمله، مرتبة أرقى من مرتبة الخائف الراجي.

فالصوفي يتجاوز الرغبة في الجنة والخوف من النار، إلى الرغبة في الارتقاء إلى مقام المحبة.

فكل فعل أو حركة أو سكون.. لله.. لا لشيء زائل زوال صاحبه.

رابعة العدوية.. أقوى من النسيان.. إنها الحب الإلهي.. ونموذج في سلامة الناس في عرضهم ومالهم ودمهم..

أستاذ باحث في الفلسفة والتصوف

[email protected]