تتردد هذه الأيام النكتة التالية:
[تلفن اوباما لبوتين ليقول: quot;شكرا يا صديقي على خشبة انقاذي من الورطةquot;. أجاب بوتين بمكره المتقنquot; ولكنني تلميذك الكسول، كما وصفتني.quot; فرد أوباما quot;عفوا ومغفرة، لقد كنت أمزح...quot;]

إنها نكتة جارحة، ولكنها تعبر عن واقع ما جرى حول الجريمة الكيميائية، وتقلبات الرئيس الأميركي، واستخدام بوتين لكل خبرة الكي. جي. بي. للتلاعب بالحقائق، وقلب الطاولة على رؤوس الغرب والشعب السوري وضحاياه.
لكل من بوتين واوباما شخصيته وماضيه ومطامحه، وما يتفقان عليه هو تنازع عدة مفارقات ومتناقضات داخل كل منهما.
اما بوتين، فهو موزع بين الحنين لستالين واندروبوف، أي للإمبراطورية السوفيتية، التي قال إن سقوطها كان أكثر كارثة في التاريخ، والتي يعرف جيدا أنها لن تعود، وبين الحنين للعهد القيصري، والرغبة في بناء إمبراطورية روسية جديدة [الخامسة]، تجمع مشتركات بين العهدين. ولعله، خلال ولاياته الرئاسية، قد نجح لحد بعيد في تشكيل ملامح ومعالم هذه الإمبراطورية، وذلك بحسب الكاتب الروسي الكسندر بروخانوف: أي الأوتوقراطية، والأرثودوكسية، والشعور القومي المنتفخ، المعادي للولايات المتحدة خاصة وللغرب بعامة. كما أنه نجح لحد كبير في مساعيه لتجميع مختلف الأقاليم ومعظم الجمهوريات السوفيتية السابقة تحت اتحادات كالاتحاد الكمركي واتحاد quot;أوراسياquot; [جمهوريات أوربا- آسيا]، وهو المشروع الذي وصفته عام 2012 هيلاري كلينتون بأنه عودة للإمبراطورية السوفيتية باسم آخر، والمفترض أن يضم حتى دولا في أميركا اللاتينية معادية لواشنطن كفنزويلا- أي محور دولي واسع في وجه أميركا والأطلسي. وهناك منظمة شنغهاي للتعاون، وتضم، كأعضاء أومراقبين، الصين وكازغستان وقرغيزيا وطاجكستان وأوزبكستان وباكستان ومنغوليا والهند وإيران وباكستان وافغانستان. وكانت المنظمة قد أصدرت بيانات لصالح النظامين السوري وإيران. وروسيا بوتين تستعمل الغاز سلاحا للضغط والابتزاز، فضلا عن استخدام quot;العصاquot; حسب الحالات، كما فعل بوتين بغزو جورجيا وقضم أراضيها. وسبق أن أشرنا إلى أن بوتين يأخذ بشعار اندربوف: quot;ليس المهم استخدام العصا في كل مرة، بل المهم أن تظل مشهرة فوق الرؤوس دائما.quot; ومنذ ولايته الجديدة، عزز بوتين، ووسع من تدخل الدولة في كافة المجالات، وطارد المنافسين والمعارضين، وجهز ملفات حاضرة للفتح ضد كل منهم [على طريقة المالكي ضد منافسيه ومنتقديه وطريقة أردوغان ضد العسكر، سوى أن ملفاته قد تكون دقيقة نسبيا وغير مفبركة كالحالتين العراقية والتركية!]. وقد حارب منظمات المجتمع المدني بتهم الاستقواء بالغرب. وأما عن أيديولوجية الإمبراطورية المنشودة، فقد شكل لجنة من الساسة والاقتصاديين والفنانين والكنيسة والمثقفين، وطلب منهم الانكباب على دراسة وضع وصياغة أيديولوجيا مستحدثة لروسيا.
إن من أهم معالم سياسات بوتين الخارجية النفخ في معاداة واشنطن واتهامها بالتأمر على النظام الروسي. وقد نصّب العديد من القوميين المتحمسين في مراكز عليا، وهم مشبعون بهذا العداء. ومشاكسة الولايات المتحدة حيثما أمكن سياسة روسية نشيطة، وتكاد تصل لحافة سياسات الحرب الباردة، ولكن بوتين يحرص على عدم قطع الخيوط، بل استخدام ما يراه ضعفا وانكفاء أميركيين لتكون كلمة روسيا هي العليا، كما يجري الآن في الملفين السوري والإيراني، معتمدا في ذلك على التعاون الصيني الفعال، وعلى تدوير حق الفيتو كما يريد. وقد تعمد منح الوكيل الاستخباري الأميركي سنودن حق اللجوء نكاية بأميركا، وساند المشروع النووي الإيراني بكل قوة، وتدخل في الحرب البشارية ضد الشعب منذ اليوم الأول لأغراض وأهداف شتى، منها مشاغلة ومناكفة الغرب، والنفاذ لملفات الشرق الأوسط لاحتلال دور هام فيها؛ ومنها الخوف من أن تأتي بعد الأسد حكومة تسمح لقطر بمد أنابيب الغاز القطري عبر سورية لأوروبا، مما يضعف من فاعلية استعمال الغاز الروسي كسلاح ابتزاز، ويقلل من موارد الغاز الروسية.
لقد استغل بوتين تردد وتناقضات ورومانسية أوباما مرارا، سواء بعد غزو جورجيا، الذي تناساه أوباما بعد وصوله للرئاسة الأولى، أو تراجع الأخير عن مشروع الدرع الصاروخية في دول من شرقي أوربا، أو تودده المستمر لحد اليوم في التعامل مع نظام الفقيه. وهو يتعامل مع أوباما تعامل رجل خبرة ومكر ودهاء مع رئيس ساذج ومتقلب في الشؤون الخارجية، وحريص على سمعته الداخلية أولا.