حِقَنْ التخدير والمهدئات التي وخزوا بها الشعب السوري، منذ حوارات العرب إلى مجلس الأمن ووفود هيئة الأمم إلى جنيف الثانية، لم تعد تفيد في تنويمه، فخرج بوتين وأوباما معاً بالخدعة الكيميائية كحقنة من الوزن الثقيل، فقد كان لا بد من تمرير فترة زمنية أخرى، والوصول بالشعب السوري الباقي على قيد الحياة ضمن الوطن إلى مرحلة الإنتخابات، لتمجيد الأسد ديمقراطياً، وإرضاخ المعارضة على تقبل شروطهما، فأوصلا ببشار إلى الإقتناع بمقولته التي ذكرها يوماً: أن العرب والعالم كلهم سيأتون ويعتذرون مني هنا في دمشق. وهذا ما يفعلانه ولاته أوباما و غيره من الرؤساء بشكل عملي وليس نظرياً، فالأسد هو الأن يهدد ولا يقبل الشروط، يعطي لهم ما يريد أن يتخلص منه، مشروطة بسكوت أمريكا، علماً أن الأسلحة الكيميائية الموجودة في ترساناته، معظمها أصبح سلاحاً قديماً وهي عالة أكثر ما يكون سلاحاً مفيداً، إلا في حالة مثل الغوطة الشرقية، فعملية التخلص منها تحتاج إلى جهود وأموال وخبراء على المستوى العلمي العالي المستوى، كما أن الإحتفاظ بها أصبحت من المعضلات الكبرى لقوى بشار الأسد الحاضرة، والتي خرجت من إطار الجيش النظامي والمتضمن خبراء عسكريين، بل معظمهم مجموعات متكونة من عصابات وقتلة ومجرمين، لايملكون الخبرات الكافية لحفظها أو إستعمالها بالشكل المطلوب، ولا يهتمون بالأسلحة الكيميائية، وسوف لن يتوانوا من استعمالها عند كل لحظة يتعرضون فيها إلى ضغوطات عسكرية من الجيش الحر.

أوباما وبوتين يدركان تماماً أن تدمير ترسانة الأسلحة الكيميائية في سوريا تحتاج إلى ما لا يقل عن عدة آلاف من الخبراء المتعددي الإختصاصات، فالأسلحة هي من أنواع متنوعة، وكل نوع له مختصيه، كما وأن الكمية المقدرة في المخازن تتعدى ألف طن، وهذه تحتاج إلى أماكن شاسعة وظروف بيئية ملائمة لإزالتها، فلا يكفي تدميرها، وقد تحتاج إلى مخابر عالية الجودة لتحليل تلك المواد، بدون ذلك فإن تأثيرها قد تمتد إلى أبعاد جغرافية شاسعة، كما وأنها تحتاج إلى أموال ضخمة تبلغ ربما المليار دولار لتكميل الخطة بالشكل التام، والأهم من كل هذا والتي يبحث فيه بوتين وأوباما، هو العامل الزمني، فالعملية، بدءً من لحظة الحوارات إلى نهاية إتلافها ستحتاج إلى سنوات وليست سنة فقط كما يقال في الإعلام، وهم بهذا يعطون للسلطة السورية الزمن اللازم لإعادة ترتيب ذاته وبمساعدة روسيا وإيران ولا نستبعد أمريكا حاضراً، والعملية بكليتها تؤكد حقيقة دبلوماسية وسياسية مجحفة بحق الثورة السورية وبدماء الشهداء.

جميع الذين يوافقون على هذه الخطة، يعلنون بشكل مباشر على إعترافهم بسلطة بشار الأسد، كممثل سوريا الأوحد، مع إهمال شبه مطلق بقوى المعارضة، فهم يوقعون مع السلطة الإتفاقيات، ولا يناقشون بنداً منه مع المعارضة، بل ولم يؤخذ برأيهم كلياً فيما إذا كانوا موافقون عليه أم لا وما إعتراضاتهم، وعلى رأسهم الإدارة الأمريكية التي تظهر على أنها تدعم المعارضة السورية بدون التكفيريين، فقد كان أوباما أول الموافقين على الخطة حتى قبل موافقة بشار الأسد، لأنها كانت نقطة الخلاص له من المستنقع الذي أغرق ذاته فيه، وهو لم يكن على سويتها، فالديمقراطيون عامة وبراك أوباما بشكل خاص من الرؤساء الذين يودون الخروج من الإدارة كأول رئيس لم يخلق حرباً مباشرة ولم يرسل جندياً أمريكيا إلى معركة، بل أطفا الحروب، وأعاد الجنود الأمريكيين إلى بيوتهم، فحرب ليبيا يضعها على ذمة الناتو.

ما يطغى على الإعلام، يتبين بأنه هناك إتفاقيات ومحاورات خاصة تجري بين روسيا وأمريكا تخص الثورة السورية وحدها، وأن قضية سوريا هي مركز الثقل الأهم في المحادثات بينهما، وتبينت من خلالها أن بوتين قدم إلى بشار الأسد ما لم يقدمه أمريكا لدول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، أصبح هو وإدارته ووزير خارجيته، متحدثون بإسم السلطة السورية، دون العودة إلى مشورة دمشق، وما قدمه بوتين لأوباما تعادل كل ما قدمه له الكونغرس والإعلام الأمريكي الليبرالي معاً، وكانت العملية من أجل الإستمرار في الإتفاقيات الرئيسة والأوسع من الظاهر، ظهر للإعلام على أنه أنقذه من فضيحة دبلوماسية وعراك سياسي داخلي، وذلك عن طريق الطبخة الكيميائية، التي كانت قد أحضرت لها قبل مؤتمر قمة العشرين في بطرسبورغ، وعليه فقد استدعى بوتين وزير خارجية سوريا وليد المعلم لا لمشورته بل ليعلن من موسكو عملية قبول السلطة السورية على موافقة بشار الأسد على الخطة الروسية المطروحة، والتي هي في واقع الأمر خطة روسية أمريكية مشتركة تتجاوز سوريا والشرق الأوسط، لكن الخداع السياسي للعالم وللمعارضة السورية قبل الكل، وللدبلوماسية العالمية، تطلبت أن تظهر من الجانب الروسي وبنفاق من وزير خارجية أمريكا جان كيري في بريطانيا والذي كان مخططاً ليرفقها مع تهديد سفيه، وهي أن حديثه عن السلاح الكيميائي لا يعني بأنه إقتراح، والكل سمع موافقة أوباما من واشنطن قبل أن ينهي جان كيري حديثه هناك، و كم كانت سعادة أوباما كبيرة يوم سمع تصريح وزير خارجية سوريا وليست موافقته على الخطة، فالموافقة كانت موجودة ومعروفة من قبل، وتبين هذا من خلال أعلام السلطة السورية والتي كانت تبث بشكل مباشر على أن وزير الخارجية قريباً سيعلن عنها، كما وفي مقابلة وولف مذيع الس ن ن المعروف وغيره من المقابلات التي أجريت مع براك أوباما في نفس اليوم بينت على مدى سعادته، فلم تفارق الإبتسامة وجهه، رافقها السلاسة الكلامية التي كان يتحدث بها كالعادة عندما يكون الموضوع مشوقا، بعكس المقابلات التي سبق مؤتمر العشرين، عندما كان يتحدث عن الخط الأحمر والذي تجاوزها بشار الأسد وبفراسخ، فكان يتمهل في كل كلمة يقولها والتردد مبان عليه، وكان واضحاً بأنه يناقض سياسته في كثيره، هدد ووعد بالضربة وهو في حقيقته لم يكن يعني أكثر من كلام سياسي ودعاية إعلامية للتغطية على المطبة التي أدخل ذاته فيها، فقد كان يلحق في نهاية كل تصريح جملة تبقي بها الأبواب مفتوحة لتمديد زمن الضربة، وإعطاء فرصة لبشار الأسد بالتفكير وإعادة ترتيب وضعه العسكري. وهذا ما يرى في الإعلام ويصل إلى مفاهيم الشعب، لكن في الواقع الفعلي الخطة بين روسيا وأمريكا تتجاوز سوريا والشرق الأوسط.

فما يقرأ بين سطور التحالفات التي تجري بين روسيا وأمريكا هي أبعد بكثير من كل ما ذكر سابقاً، فكل من يتعمن في مجريات الأحداث خلف الأروقة السياسية، وعلى مسيرة سنتان وأكثر من عمر الثورة السورية، ستظهر له على أن محادثات أوباما وبوتين وعن طريق وزيري خارجيتهما تتجاوز الثورة وأبعادها، فهناك تقسيم للمنطقة بينهما. فقد بدأ القطب الثاني بالظهور ويطالب بوجوده على الساحة الدولية، إما بتخاذل الديمقراطيين في أمريكا أو بإصرار رجل ال ك ج ب القديم بوتين على العودة إلى مسرح الأحداث كقوة عظمى كما كانت عليها الإتحاد السوفيتي يوماً ما، والثورة السورية والصراع عليها أو على إيران هي أوراق للتلاعب والتمويه، فالإتفاقيات بينهما تتجاوز هاتين القضيتين، فما قدمه الشعب السوري من المآسي، تندى لها جبين الإنسانية، والتي تجاوزت كثيراً إستعمال بشار الأسد للأسلحة الكيميائية، لكن هاتين الدولتين أثيرتا هذه القضية أكثر بكثير من كل الدمارين البشري والمادي في سوري.

الذريعة التي يقدمانها للإعلام مهما كانت أبعادها، تخل بالقوانين والأخلاق الإنسانية، فهما يقدمان دعم مباشر لإستمرارية حكم بشار الأسد، ولا يغطي على هذه الحقيقة تصريحات أوباما بتسليح المعارضة، حتى ولو قبلت المعارضة الشروط المعروضة مع عملية التسليح، وذريعة التيارات التكفيرية ملغية، لأن الإدارة الأمريكية تعلم أن العديد من هذه التيارات من صنع السلطة وتخدمها بشكل مباشر، فخروجهم بخطة الأسلحة الكيميائية ستمرر شهور أخرى لولاية الأسد، وهي عملياً مبايعة من قبل أوباما وبوتين لخلافة بشار لفترة على الأغلب قد حدد زمنها، كما وإنها تغطية على جرائمه ضد الإنسانية، ليعفى منها حتى ولو قرر عزله مستقبلاً، فلو لم تكن الصراعات بينهما لكان بشار الأسد وزمرته الأن يقفون أمام محكمة لاهاي كمجرمي حرب ضد الإنسانية.

الولايات المتحدة الأمريكية

[email protected]