من مآسي عراقنا المستباح، منذ عقود من الزمن، هجرة أو تهجير المئات والمئات من الكفاءات المتميزة في مختلف المجالات. ولعل في مقدمة هذه المجالات الفنون والثقافة بكل تفرعاتها. وقد خسر العراق العشرات من خيرة النخب في المهاجر، فيما كانت عيون أصحابها تتطلع نحو الوطن وشعبه، وتتجاوب مع كل فرحة ومأساة، وما أقل الأفراح وأندرها. ولعل من أوجع ما يعانيه الوطني العراقي في المهاجر أن يرحل بعيدا عن البلد الذي أنجبه، وعن قبور العائلة والأحباب. ولكن هذا هو قدرنا بعد أن لم يعد الوطن وطننا؛ فبالأمس، كان وطن الطاغية والعشيرة، واليوم تحول لضيعة الفاسدين والطائفيين وأعداء الفن والثقافة، والمليشيات الإيرانية التي يمسك قاسمي بلجامها ليسيرها كما يشاء نظام الفقيه في تدمير العراق، ولتشارك القاعدة في القتل الجماعي للعراقيين، كل يوم وكل ساعة.
رحل من قبل، في المهاجر القريبة والنائية عن البلاد، العشرات من النوابغ، من شعراء ومغنين وملحنين وموسيقيين وأدباء وصحفيين وساسة، دون أن يجدوا من الحكام ما يدل على قدر بسيط من التقدير والوفاء لهؤلاء الذين منحوا العراق والثقافة والفنون والحياة العامة خلاصة ما لديهم من طاقات وكفاءات، والذين ظلت عيونهم تتطلع للعراق برغم قسوته عليهم. في الدول المتحضرة تجد الشوارع ومحطات المترو بأسماء الأدباء والفنانين الفلاسفة التنويريين، وتجد تماثيلهم في الساحات العامة. وفي عراق اليوم ترتفع صور خميني وخامنئي وصور رجال الدين وساسة طائفيين بائسين، وهناك تماثيلهم الشمعية، فيما تشن الهجمات على نوادي الأدباء وعلى الموسيقى وكل الفنون، فيما تنهب المليارات. وقد تحول العراق على مناحات دائمة في متاجرة رخيصة بالمذهب والدين.
كلمة تقال وقد رحل عنا للتو مبدعان متميزان، أحدهما في لندن، والثاني في السويد.
أما الأول، فهو الصديق الغالي الراحل ناظم رمزي، الفنان الشهير، رسما، وتصويرا، وتصميما، وتأليفا فنيا. ومع أنني لست من اختصاصي هذه الفنون، فإن ما لدي من مؤلفاته تدل على نبوغ راق، كفنان مبدع، وعلى إنسانية سامية و وطنية أصيلة. وهو كفنان، كان يلاحظ أدق التفاصيل في الشوارع والأحياء والمعالم والشخصيات، ولا يكتفي بالظواهر. ومراعاة التفاصيل الدقيقة في التصوير والرسم هي من شروط الفن الناجح. وكان الفقيد، فضلا عن نبوغه وفرادته وعطائه الثر، رمزا للخلق العالي وللتواضع التلقائي غير المفتعل. وجدير بالإشارة إلى أن بين عائلتينا وشائج صداقة قديمة، وخصوصا بين السيدة الفاضلة سهى، زوجة الفقيد، وبين شقيقاتي. وقد ظلا وفيين لهذه العلاقة على اختلاف الفصول والأوضاع والمواقف. فللفقيد العزيز تحيات الحب والاعتزاز، ولعائلته كل المواساة.
وفي وقت متزامن، يرحل في السويد الرسام العراقي الكاريكاتيري المبرز حسيب الجاسم، الذي نال عدة جوائز دولية عن الإبداع. وكانت رسومه تتوج مواقع عراقية بعنوان quot;دافع عن لعراقquot;، الذي كان عنوان صحيفة عراق الغد. ويكتب الدكتور رياض الأمير في توديعه أن رسومه تلك احتلت موقعا بارزا في معرضه بفينا، وأصبحت، كما كتب الفنان سلمان عبد، quot;كأيقونة تستنهض الهمم وتثير العزائم للدفاع عن الوطن. وقد انتشرت في المواقع الأكترونية والصحف وأصبحت تتداول على صفحات الفيسبوك.quot;
لقد فقد العراق والفنون العربية فنانين بارزين أحبا الوطن حتى النفس الأخير وأحبا الإنسانية وعشقا الحضارة. وما أجدرهما بالتكريم والتمجيد.
فيا عزيزنا ناظم رمزي، ألف تحية: إنك لم تمت، ولكنك ستبقى مخلدا في القلوب وتاريخ الفن، بينما سيزول- مع اللعنات- المتطفلون والمستبدون والمتنازعون على الثروة والمناصب. وإلى الفقيد المبدع حسيب الجاسم، الذي لم أتشرف بمعرفته شخصيا، تحيات الاعتزاز والامتنان. ومجدا لرمزي والجاسم.