يبدو أن مالي قد استعادت ما هو أساسي من عافيتها السياسية، وإن بتضحيات جسيمة، بعد فترة عصيبة من الإرهاب الأسود الذي عصف بطمأنينة البلاد، وهددها في حاضرها ومستقبلها، وأصر على تقويض كل تاريخها الثقافي والحضاري وتحويلها إلى قاعدة خلفية مركزية لتنظيم القاعدة الارهابي ومختلف تفرعاته وأذرعه في المنطقة. هذا ما يعنيه تنظيمها لانتخابات رئاسية اعتبرت من قبل المجتمع الدولي لحظة متميزة في عودة مالي إلى حياة سياسية طبيعية على طريق بناء الديمقراطية وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والحفاظ على وحدتها الوطنية. ولعل الاحتفاء الدولي بتنصيب الرئيس المنتخب إبراهيم بوباكر كيتا تعبير عن ثقة المجتمع الدولي بحيوية الإنجاز الذي حققته مالي وبمستقبل بلاد عانت الأمرين خلال المواجهة العنيفة مع الإرهاب والتطرف الذي عصف بها إبان شهور متواصلة، وكاد ان يقوض كل معالم الدولة فيها ويحولها إلى مرتع لقوى الإرهاب الدولي في سياق سعي تلك القوى إلى خلط الأوراق من خلال فتح وإشعال جبهات متعددة وجديدة على امتداد خريطة العالم، لإرباك دول بعينها والاستفادة من ضياع بوصلة بعض التيارات، داخل المجتمع الدولي، بخصوص استراتيجية تنظيم القاعدة وتجسيداته، في مختلف مناطق العالم، وسقوطها في فخ دعمه بهذه الطريقة المباشرة أو غير المباشرة بحسب الظروف والملابسات المرتبطة بمصالحها القريبة والبعيدة على حد سواء.

وبطبيعة الحال، فإن المغرب الذي تجمعه علاقات تاريخية عريقة بمالي والحريص على الدوام على ترجمة مواقفه المبدئية الاستراتيجية من الدول والشعوب على شكل مواقف ملموسة في أوقات الشدة قبل أوقات الرخاء، وفي زمانهما على حد سواء، إن المغرب كان من بين الدول الأفريقية الأولى التي أدانت بحزم وقوة ما تعرضت له جمهورية مالي من اعتداء إرهابي شامل وأعلنت وقوفها معها في معركتها العادلة والمصيرية ضد الارهاب، ولا يمكن له، بالتالي، إلا ان يكون حاضرا اليوم، وبقوة رمزية عالية في هذا الاحتفاء الدولي من خلال الحضور الشخصي للملك محمد السادس الذي عادة ما يعين من ينوب عنه لتمثيله في مثل هذه المناسبات على اعتبار ان حدث تنصيب الرئيس ابراهيم بوبكر كيتا بعد كل المخاض العسير الذي شهدته البلاد خلال المدة الأخيرة، حدث استثنائي يستدعي إيلاءه الأهمية السياسية التي يستحقها، كما يدل على أن المغرب جزء لا يتجزأ من منظومة الدول المناهضة للإرهاب، ليس لكونه من الدول المستهدفة من هذا الوباء فحسب، وإنما ايضا لحرصه الملك محمد السادس على إبراز الأهمية الخاصة التي يوليها للعلاقة مع الدول الأفريقية، والعمل بإصرار على تطويرها بما يخدم المصالح الاستراتيجية الكبرى للقارة التي تربط المغرب بها روابط القربى والمصالح المشتركة على الرغم من الطعنات التي تلقاها من الخلف، من قبل بعض الدول التي انساقت، في لحظة أو اخرى، ولأسباب وذرائع باتت مكشوفة للقاصي قبل الداني، مع أطروحات خصوم الوحدة الترابية للمغرب ودفعت بالمغرب إلى الخروج من منظمة الوحدة الأفريقية التي كانت المملكة احد مؤسسيها البارزين في خضم معارك استعادة البلدان الأفريقية استقلالها وسيادتها الوطنيين.

من هنا تكتسب زيارة العاهل المغربي محمد السادس الخميس التاسع عشر من الشهر الجاري أهميتها التاريخية والاستراتيجية وبالتالي سيكون لها ما بعدها على صعيد تنتمية العلاقات السياسية والاقتصادية بين المغرب ومالي من جهة، وفي تفعيل دور المغرب في أفريقيا، التي تعد مالي أحد مداخلها الأساسية، من جهة أخرى.

ولعل تأكيد رئيس جمعية الصداقة المالية ndash; المغربية موسى ديارا ان زيارة العاهل المغربي لمالي تشكل فرصة تاريخية لانطلاقة جديدة للعلاقات العميقة والعريقة التي تجمع بين البلدين الشقيقين، وتأكيده في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، إن quot;الشعب المالي قاطبة يتشرف بهذه الزيارة الملكية التي ستشكل فرصة لإعطاء دينامية جديدة للعلاقات الثنائية، وإعادة تنشيط آليات التعاون في كافة المجالات، وتعزيز الحوار السياسي على أساس قواعد متينة للثقة المتبادلةquot;، لعل هذا مؤشر هام على أهمية هذه الزيارة، علاوة على كونها تكرس استراتيجية ديناميكية دشنها الملك محمد السادس منذ توليه عرش البلاد عام 1999 في التعاطي مع القضايا الأفريقية المختلفة، تقوم على الاحترام المتبادل وترجيح كفة التعاون والتضامن في أفق تحقيق الاندماج بين مختلف مكونات الأقاليم في ظل تحقيق المصالح المشتركة واحترام السيادة الوطنية للدول والشعوب.