في المقال الأول حاولنا تقديم مقاربة نسبية عن شخصية ومنهج بوتين وما هو هاجسه الأول في السياسة الخارجية. وكان من اجتهادنا أن الرجل موزع بين الحنين الجارف للعهد السوفيتي، رغم علمه باستحالة انبعاثه، وبين الحنين للعهد القيصري، وكيف أن ثمة مشتركات بين الإمبراطوريتين، وخاصة هوس القوة والاستبداد وهاجس الدولة الكبرى، والأمة الروسية العظمى. وإذا كانت الدولة السوفيتية قد تبنت الماركسية اللينينية، فإن الإمبراطورية التي يحلم بها بوتين لا تزال بلا نظرية متكاملة، ما عدا النفخ في العصبية القومية الروسية، والعداء لأميركا خاصة، وللغرب عامة.
وبصدد أوباما، الذي اتهم بوتين بالتلميذ الكسول، فإنه موزع ومشتت داخليا بين عدد مما تبدو كمتعارضات. وهذا يعود لنشأته كأفريقي، ومن أب كيني مسلم [كان متهما بكراهية أميركا، البيضاء؟؟]، وكذلك لميوله الشبابية اليسارية، وحيث كانت له علاقات بأصدقاء ينتمون لليسار المتطرف والعنيف. ومما يستحق التأمل ما كتبته عنه عام 2009 صحيفة لو فيجارو الفرنسية [ سبق واستشهدنا بها] من أن quot; قلب اوباما لا ينبض في واشنطن بل في شيكاغوquot;. وشيكاغو مدينة اوباما، مع العدد الكبير من الأفارقة الأميركيين، وحيث الكنيسة التي اعتاد اوباما وعائلته ارتيادها، والتي وقف راعيها عام 2009 [ أو 2010 ] ليعلن جهارا بأن أميركا استحقت ما حل بها في 11 سبتمبر، وتصريحه ثانية، وهو المناداة والدعاء بالويل والهلاك لأميركا[ البيضاء طبعا]. وأوباما، كرئيس للدولة، موزع بين شعوره الجارف بأفريقيته والإعجاب بوالده، وبين إدراكه بأنه يجب أن يكون رئيسا للجميع وقائدا للأمة كلها. وهو يحاول الموازنة، سوى أن أفريقيته وشعوره الباطني بأن السود لا يزالون عرضة للتميز العنصري رغم أن رجلا منهم صار الرئيس، تدفعانه أحيانا لانفعالات عاطفية عفوية لا تليق برئيس الدولة الكبرى، وذلك كلما وقع حادث كان فيه أحد السود في اشتباك مع البوليس أو القضاء. ونتذكر مثلا كيف وقف يهين الشرطة عندما أوقفت في مركز البوليس بعض الوقت أستاذا أسود تلبس بمحاولة اقتحام بيت عنوة، ولما عرفت الشرطة أن البيت بيته وقد ضيع المفاتيح، أطلقت سراحه. ولكن الرئيس الأميركي، بدلا من السؤال والتوثق، وقف مساء ليهين الشرطة ويلمح باتهام بالعنصرية. ولما عرف خطأه لم يعتذر. والحدث الجديد مؤخرا كان قضية حارس قتل شابا أسود دفاعا عن النفس، وبعد محاكمات طويلة وأصولية، برأت المحكمة الرجل. وهنا أيضا وقف أوباما، وفي المساء نفسه، يعرّض علنا بالقضاء ويتهمه ضمنا بالعنصرية مع أن من واجبه احترام سيادة القانون. وقد كان عليه التأكد قبل انفعاله التلقائي المدوي.
إن تشتت وتتردد وهواجس الرئيس الأميركي تبدو جلية في سياساته الخارجية. فقد جاء بهوس أن كل ما فعله بوش الابن كان خطأ، وأن السياسات الأميركية كانت هي المسؤولة عن تطرف المتطرفين وعدوانية الأنظمة المستبدة والتوسعية. فراح يمد يد التودد لأعداء الولايات المتحدة، أمثال إيران وكوريا الشمالية وبورما [واليوم لطالبان من وراء ظهر كرازي] ويهمل، بل، وحتى يهين الأصدقاء[ كالبرودة والجفاء تجاه رئيس وزراء بريطانيا السابق، وكنقد فرنسا بسبب قانون حظر الشارات الدينية في المدارس، ومنها الحجاب]. ويبدو اوباما غير مبال بتراجع المكانة العالمية للولايات المتحدة ما دام يحظى برضا غالبية شعبية حول شؤون داخلية محض. وقد كتب عنه محلل أميركي عام 2010 بأن سياساته الخارجية تتلخص فيquot; صفع الأصدقاء ومصافحة الأعداءquot;. وكاتب فرنسي وصف مؤخرا هذا النهج بquot; مصانعة الأعداء والإساءة للأصدقاءquot;، وكان هذا تعليقا على ركض اوباما لتقبل مبادرة لافروف البوتينية، دون أية مشاورة مسبقة مع الحلفاء، ولاسيما مع فرنسا التي كانت متحمسة جدا لعقاب النظام الأسدي. كما أن تركيا لابد وأصيبت بخيبة أمل، فضلا عن دول غربية أخرى وخليجية. وقد أصبح الملف السوري بيد روسيا كناطقة باسم الأسد وراعيته. وظهرت أميركا كمجرد شبه تابع لروسيا، التي هي الخصم المتورط في الحرب مع الأسد. وبحسب الواشنطن بوست جورنال، فإن فريق اوباما، ومنهم وزير الدفاع، حذروه من اللجوء للكونغرس، وحاولوا إقناعه، ولكنه لم يستمع إليهم. وها هما بانيتا وغيتس، وزيرا الدفاع السابقان، ينتقدان لجوء اوباما للكونغرس، ويعتبران أن مواقفه وضعت مصداقية أميركا على المحك. وقد وصف عدد من أعضاء الكونغرس الاتفاق مع روسيا بأنه يعطي الأسد مزيدا من الوقت للقتل والتلاعب، وبأن الانجرار وراء الموقف الروسي سوف يشجع إيران والصين وكوريا الشمالية، حيث تبدو الدولة الكبرى في الموقع الضعيف. وقال الناطق السابق باسم الجمهوريين في مجلس النواب، غينغريشquot; نحن نمشي راء الروس. هذا ليس موقعا جيدا على المدى البعيدquot;. ويرى خبراء أميركيون وغربيون أن اوباما، حين فتح النقاش حول الكيميائي قبل عام، كان كمن أطلق رصاصة على قدمه. وهناك من وصف خطه الأحمر بquot; زلة لسانquot;، كquot;زلةquot; كيري في إجابته لصحفي عن الكيميائي، والتي تلقفها حالا بوتين والأسد ليلخصا القضية السورية في الكيميائي حده، [وهذا من دون التقليل أبدا من خطورة هذا السلاح واستعماله وأهمية إتلافه]. وصار الرئيس الأميركي متهما من جديد بضعف القدرة في التعامل مع الروس وإيران والصين وكوريا الشمالية وطالبان. ومن المعلقين من يصفون الوضع الأميركي وكأن أميركا باخرة بلا ربان، وهو ما يحير الحلفاء التقليديين، كأهل الحليج مثلا، قد يضعف الثقة بإرادة الولايات المتحدة باستعدادها لحمايتهم من عدوانية ونشاطات التخريب الإيرانية. وثمة كتاب خليجيون راحوا يدعون إلى تحولات في التحالفات باتجاه دول غربية أخرى وعدم الاتكال المفرط على أميركا وحدها. وربما ستستغل إيران هذه الهواجس للمزيد من ابتزاز الخليجيين. حتى إسرائيل حليقة أميركا الرئيسية في المنطقة تراودها الشكوك حول مواقف اوباما الحقيقية من النووي الإيراني.
إن أداء اوباما منذ قدومه للبيت الأبيض كان تشجيعا للنزعة الانعزالية الأميركية، وخاصة لدى الأفارقة واللاتينيين الذين اعتمد على أصواتهم الانتخابية، والذين يعتقدون بأن ما يجري خارج بلادهم لا يعنيهم، وأن المال الأميركي يجب أن يصرف على الداخل وليس على الحملات العسكرية خارجا. وهكذا انسحب من العراق تاركا البلاد في القبضة الإيرانية، واتفق مع إيران على الولاية الثانية للمالكي رغم خسارة الأخير الانتخابية، وسينسحب من أفغانستان بعد صفقة يعمل لها مع طالبان بمساعدة قطر وكأن شيئا ما لم يحدث. وكان يرى الدم السوري يجري مدرارا منذ أكثر من عامين بلا موقف جرئ واضح. كما وجدير بالذكر أيضا أنه منذ مقتل بن لادن، حاول التقليل من خطر القاعدة، وكأن موته قد هشم القاعدة. ولكن القاعدة توسعت وتمددت، ولجأت إلى لامركزية واسعة في التخطيط والتنفيذ والاعتماد أساسا على عناصرها داخل أميركا وأوربا. وهذا ما حدث مع جريمة نضال حسن وجريمة بوسطن، وجرائم لندن وباريس بعدهما. والأرجح أن يكون الهجوم على مقر البحرية في واشنطن عملا إرهابيا رغم أن أوباما يرفض لحد الآن إلا وصفه بمجرد quot;إطلاق نارquot;!