قبل الثورة الاسلامية فى ايران فى عام 1979 كان يحكم ايران الشاه محمد رضا بهلوي الذى لقب نفسه بـ(شاهنشاه) أي ملك الملوك، وكان جبارا عنيدا كالح الوجه ونادرا ما يبتسم. كان ينفق من الخزينة الايرانية كما يحلو له ويشاء، بينما غالبية الشعوب الايرانية تعيش تحت خط الفقر. واتسعت الهوة بين الطبقتين الفقيرة والغنية واشتدت كراهية الايرانيين الفقراء للشاه خاصة بعد احتفاله بذكرى تأسيس اول امبراطورية فارسية كلفت الخزينة ما لا يقل عن 200 مليون دولار (تعادل أكثر من مليار دولار بسعر اليوم) دعا اليها المئات من الأجانب ولم يسمح للايرانيين بحضورها. هاجر الكثير من الايرانيين الى خارج بلدهم وجاء البعض منهم الى العراق حيث استوطنوا فيه وتعلموا اللهجة العراقية واندمجوا مع بقية العراقيين، وأصبح من الصعوبة تمييزهم عن العرب وغيرهم من القوميات التى تستوطن العراق. ولكن الطائفيين ودعاة الفتنة فى العراق من أمثال النائب عن قائمة علاوي أحمد العلواني يصرون على تسميتهم بـ(الفرس المجوس والصفويين).

كان مسلمو ايران على المذهب السني حتى قام اسماعيل الصفوي التركي بعد غزوه لايران قبل حوالى ستة قرون بفرض المذهب الشيعي عليهم، وبمرور الزمن أضافوا الكثير من الخرافات الى المذهب الشيعي، وتعمق بعضهم بدراسته وأصبحوا من المراجع الدينية المهمة للشيعة فى مدينة النجف. ولم يكن أحد يبالى سواء كان المرجع عربيا ام أعجميا طالما أكمل دراسته الدينية وأثبت لباقى رجال الدين قابليته الفقهية وتبحره بعلوم الدين، شأنه شأن البابا عند المسيحيين. فالبابا الحالي ارجنتيني والذى قبله كان ألمانيا وقبله من بولونيا، ولم يقل أحد بأن اتباعهم من (الطابور الخامس) أي جواسيس مثلما ذكر طارق الهاشمي قبل يومين من ملجئه فى تركية عن العراقيين الذين يقلدون على خامنئي، فخلط الدين بالسياسة.

التجأ الخميني الى العراق هربا من الشاه، فقبلته حكومة البعث التى لم تكن على وفاق مع الشاه، ثم عادوا وطردوه من العراق بعد ان تصالح صدام حسين مع الشاه، فلجأ الى فرنسا وعاد الى ايران بعد نجاح الثورة الايرانية فى مطلع عام 1979. فى تشرين الثاني/اكتوبر 1979 إقتحم أنصار الخميني السفارة الأمريكية فى طهران واحتجزوا بداخلها عشرات الرهائن بسبب استقبال الولايات المتحدة لشاه ايران الذى وصلها لأجل العلاج من السرطان، وتحولت ايران من حليف لأمريكا الى عدو لها، وفقدت اسرائيل صديقا حميما لها فى المنطقة، حيث كان التمثيل الدبلوماسي والعلاقات التجارية بينهما على خير ما يرام.

وفى تموز /يوليو 1980 اجتمع مستشار الأمن القومي الاميركي بأحد الزعماء العرب وناقشا مخططا مفصلا يقوم صدام حسين بموجبه بتأييد إنقلاب فى ايران ضد الخميني فيتدخل العراق تلبية لدعوة من الضباط والمعارضين للخميني فى 9 تموز/يوليو من نفس السنة، ولكن الخميني عرف بالخطة فأعدم المئات من ضباط الجيش والمدنيين. فقرر صدام عندئذ تنفيذ المخطط بدون معونة الضباط الايرانيين وأرسل طائراته الحربية لقصف المدن الايرانية و تدمير سلاح الجو الايراني مقلدا ما فعلته اسرائيل عندما دمرت طائراتها الطائرات المصرية على حين غرة وهى جاثمة فى مطاراتها، ولكن الطيارين العراقيين لم يكونوا بمهارة الطيارين الاسرائليين، فلم يصيبوا الطائرات الايرانية بأضرار تذكر. وكانت تلك بداية حرب دموية استنزافية دامت 8 سنوات راح ضحيتها ما لا يقل عن مليون قتيل وملايين الجرحى من الطرفين.

من الذى بدأ القتال؟ الأمم المتحدة أدانت ايران بذلك، وايران تقول ان العراق كان هو البادىء. والواقع أن حكام ايران الجدد من رجال الدين أعربوا عن رغبتهم فى (تصدير) ثورتهم الى دول الجوار وقاموا باستفزاز حرس الحدود العراقيين وأطلقوا النار على مراكز حدودية عراقية. لم يقدم صدام اية شكوى للأمم المتحدة كما هو المعتاد ف مثل تلك الحالات ولكنه اعتبر تلك التحرشات بمثابة اعلان حرب على العراق فهاجم ايران برا وبحرا وجوا، وهو واثق من انها ستستسلم خلال اسابيع معدودة. ولم يدر بخلده ان ذلك الهجوم الأحمق سيكون بداية نهايته هو فيسحبه الأمريكيون -حلفاؤه بالأمس- من حفرته الشهيرة بعد شهورمن احتلالهم بغداد ومقتل ولديه وتشريد عائلته (التى غادرت العراق ومعها بلايين الدولارات من أموال الشعب العراقي)، وبعد محاكمة علنية لم يتحها لخصومه، حُكم عليه بالاعدام وعلّق على أعواد المشنقة غير مأسوف عليه.

ما زال البعض من محبى صدام ومبغضيه على السواء يتساءلون عن سبب قيام صدام حسين بتلك المغامرة الطائشة. لم يكن صدام غبيا، ولكنه لم يكن على درجة من الثقافة تؤهله لقيادة دولة. فكان من السهل على السياسيين عراقيين وأجانب ان يخدعوه ويستغلوا مطامعه الكبيرة، فأوهموه كما أوهموا جمال عبد الناصر قبله، بأنه جدير بأن يقود دولة عربية موحدة من المحيط الى الخليج. وسعى للحصول على ما كان يحلم به، ولكن أحلامه تحطمت على صخور الواقع. عندما شعرت الدول العربية وخاصة الخليجية النفطية بخطر (تصدير) الثورة الايرانية اليها، قدموا لصدام الأموال التى يحتاجها للقضاء على الثورة الايرانية بمباركة امريكية/اسرائيلية، ولما كان صدام قد جُبل على العنف وسفك الدماء منذ طفولته، فلم يفكر بدماء العراقيين التى ستسفك والأرواح التى ستزهق والبيوت التى ستخرب، فأغمض عينيه وأقدم على مهاجمة بلد جار اكبر وجيش أكبر مسلح بأحدث الأسلحة الأمريكية.

لم يشعر بخطئه الا بعد توقف القتال الذى دام 8 سنوات وانسحب الطرفان الى الحدود القديمة، وطالبته الدول الدائنة بالأموال التى دفعتها له بعد ان اوهمته بأن ما دفعته له هو منحة من أخ لأخيه!. وحاول تصحيح الخطأ فارتكب خطأ أكبر حينما اجتاح الكويت بعد ان اوهمته السفيرة الأمريكية ببغداد بعدم رغبة أمريكا بالتدخل فى الخلافات العربية، ولكن الذى حصل هو أن قامت أمريكا بحشد مئات الألوف من جنودها وجنود أكثر من ثلاثين دولة من بينها دول عربية، وطالبته بالخروج من الكويت. ولكنه رفض أن يصدق أن أمريكا جادة فيما تطلب، فبدأ يراوغ ويخاتل الى ان بدأ الهجوم الأمريكي الجوي الفضيع على بغداد فى منتصف شهر كانون الثاني/يناير 1991 واخترقت القوات الحليفة الحدود العراقية، فاضطر الى ايقاف القتال وقبول جميع شروط الاستسلام المهينة التى فرضت على العراق، واعتبر نفسه منتصرا طالما هو باق فى سدة الحكم.

ثم قامت انتفاضة شعبان فى جنوب ووسط العراق وتبعتها انتفاضات أخرى فى الشمال، فأخمدها صدام بسرعة وقسوة، وبطش بالمنتفضين ودمر مئات القرى وقتل عشرات الآلاف من العراقيين دون أن يتدخل الأمريكيون بطلب من حلفائهم العرب الذين خشوا أن يفقدوا (حامى البوابة الشرقية).

فرضت أمريكا المقاطعة الاقتصادية على العراق، وجاع العراقيون، وشح الدواء وازدادت نسبة وفيات الأطفال بصورة مخيفة، وصدام يقضى اوقاته فى بناء قصور جديدة له فى جميع أنحاء العراق ويحتفل ويرغم العراقيين بالاحتفال معه فى أعياد ميلاده، ولم تتوقف سكاكين جلاديه عن قطع رقاب كل عراقي يُشتبه باخلاصه للقائد (الضرورة). ولم يطبق كل الشروط التى وقع عليها بل أخذ يراوغ ويخاتل ويوهم الناس بأنه يحتفظ بأسلحة الدمار الشامل حفظا لماء الوجه، ولكي (لا يشمت الأعداء فيه!!). وهذا ما كان يرجوه الأمريكيون وحلفاؤهم، فبدأوا بقصف بغداد التى دخلتها القوات المتحالفة ودمّرت البنية التحتية للبلد واسقطت تمثال صدام وحكمه الى الأبد يوم 9 نيسان/ابريل 2003.

وتشكلت الحكومة العراقية الجديدة بأغلبية شيعية، ومع أن السنة لم يكونوا أقل تذمرا من حكم صدام من الشيعة وخاصة أهالى الأنبار الذين قتل صدام العديد من أبنائها من الضباط من أمثال الضابط الطيار (محمد مظلوم الدليمي) وأعاد جثته مقطعة الى عائلته فى الرمادي، ولكن الطائفيين والمغرضين والبعثيين كانوا بالمرصاد وبدعم مالي من الدول العربية المرعوبة من حكام ايران قاموا بتصوير الموقف وكأن الشيعة ينوون ابعاد السنة عن الحكم والاستئثار به لأنفسهم، فقاموا ببث الاشاعات الكاذبة وتبعتها معارك طائفية دموية قتل فيها الآلاف من السنة والشيعة وهُجّر مئات الآلاف منهم، وتغلغل بين المتنازعين أعداد كبيرة من القاعدة والسلفيين التكفيريين والبعثيين فدمروا ما تبقى من البنية التحتية للبلد المنكوب وعطلوا إعادة تعمير البلد، وفُجّرت الجوامع والمراقد المقدسة السنية والشيعية، ولم تسلم المدارس والمستشفيات من التخريب والدمار. وهدأت الأمور بعض الشيء بعد هروب مسلحى التيار الصدري من البصرة الى ايران، ولكن القائمة العراقية بقيادة البعثي القديم اياد علاوي رئيس أول وزارة بعد سقوط البعث كانت تؤزّم الأمور كلما لاحت بارقة أمل بالانفراج. ثم قام بعض قادة تلك القائمة وحلفاؤها مثل طارق الهاشمي ورافع العيساوي واسامة النجيفي وصالح المطلك بكل ما فى وسعهم لاسقاط الحكومة المشاركين هم انفسهم فيها، وشجعوا على قيام المظاهرات والفوضى فى بغداد، وتطورت فيما بعد الى اعتصامات فى الانبار وصلاح الدين وديالى، وقادها طائفيون من أمثال أحمد العلواني الذى انقطع عن اجتماعات البرلمان خشية القاء القبض عليه بعد أن أهان شيعة العراق من على منصة الاعتصام فى الرمادي وهدد بالزحف على بغداد وقطع رؤوسهم فردا فردا كما قال، والاستمرار بالزحف الى طهران!!!.

وعاد العلواني قبل ايام يحيط به الطائفيون من أمثال على حاتم السليمان وسعيد اللافي ومن نفس المنصة فى الرمادي وهدد بالزحف الى ايران لتحرير الأحواز ذات الأغلبية العربية. فهل سيعيد التأريخ نفسه فيستلم العلواني وقادة القائمة العراقية الأموال والسلاح من دول الجوار، ويزج بالعراق فى حرب جديدة مع ايران، أم سيكتفى بقتل العراقيين الشيعة الذين يطلق عليهم اسم (الفرس المجوس)، أم سينتفض الشعب العراقي ويُنحّي الساسة الفاسدين والمعممين الفاسقين؟