دُعيت الى معرض الكتاب في القاهرة عام (1996)، وهو بحق يُعد من المهرجانات الثقافية النادرة في الوطن العربي لما يحفل به من تنوع النشاطات الفكرية والأدبية والثقافية، بل والسياسية..
والدكتور سمير سرحان الذي بدأ حياته يسارياً ويعمل في صفوف الليبراليين المصريين، الى جانب قيامه بواجباته الأكاديمية، والذي انتهى به المطاف أن يكون رئيساً لهذا المهرجان، ومشرفاً على أكبر مؤسسة تقدم الغذاء المعارفي من خلال أكبر منظومة لانتاج الكتب في العالم العربي (الهيئة المصرية العامة للكتاب)..
هذا الرجل ينظر إليه البعض من زوايا متعددة، فهناك من يراه رجلاً من رجال السلطة من حيث هيمنته على الجانب الثقافي والفكري، وتبنّي المشاريع التي تُجمّل وجه السلطة كإصدار كتبٍ بأسعار متهاودة تحمل صورة سوزان مبارك باعتبارها رائدة مشروع (مكتبة الأسرة) و (القراءة للجميع).. وهو يرد على مناوئيه بالقول: quot; أنا لستُ محنّطاً، وإنما أتفاعل مع معطيات الأمر الواقع، فأدفع بعجلة التقدم للانسان بما أقوم به من إيجابيات في مجال اختصاصي.. وليقل ما يقل عني ولكنني مقتنع تمام الاقتناع بما أقوم به quot;..
الدكتور سمير سرحان دعاني الى تناول الغداء ضمن مجموعة من ضيوف المهرجان في نادي السيارات، وانفردت به بعد أن انتهى الوقت المحدد لحفل الغداء لتسجيل هذا اللقاء..
* * *
bull; دكتور سمير.. إذا رصدنا النتائج لما تقوم به من نشاطٍ ثقافي، يتكشف لنا أن هناك فشلاً ذريعاً في بلورة مشروعٍ نهضوي على الصعيد الثقافي والفكري في عالمنا العربي.. فما السبب في رأيكَ..؟!
- المشروع التنويري ndash; وليس النهضوي ndash; كان قائماً على عدة مرتكزات أساسية، أولاً: إشاعة الروح العلمية في البحث، وفي مراجعة كل ما يتعلق بالقيم التراثية والقيم الفكرية التي استند عليها الماضي، وكذلك استند على الحقوق المدنية، وخصوصاً حقوق المرأة التي نادى قاسم أمين بتحريرها، وهذه المناداة لم تأتي من فراغ، إنما جاءت من مكتسبات سياسية عامة، تدعو إلى بناء مجتمع الديموقراطية والتعددية والحزبية، وتفريخ القيادات الفاعلة من خلال العمل الحزبي..
والاجهاض الذي تعرضت له هذه الطموحات، هو بسبب عدم ممارسة التجربة الديموقراطية بشكلها الصحيح، طبعاً نحن لسنا نتحدث عن أنظمة سياسية بشكل محدد سواء كانت ملكية أو جمهورية، ولكن الحقيقة التي لابد من الاشارة إليها: أنه حدث في بداية قيام الثورة أن تم إجهاض التجربة الديموقراطية لحساب ما سُمي وقتها بالشرعية الثورية..
وهذه الشرعية الثورية أعطت للحاكم الفرد الحق في سنّ التشريعات والقوانين والأنظمة واللوائح التي يراها هذا الحاكم ndash; من وجهة نظره ndash; كفيلة بحماية الثورة من أعدائها ومن خصومها، لكي يمضي قدماً في تحقيق مشروعات العدالة الإجتماعية وتوزيع الثروة و الإصلاح الزراعي والتعليم، التي ارتكزت عليها الثورة بصفتها منحازة للفقراء، ومنحازة للطبقات الكادحة.. وصاحَب ذلك طبعاً اختفاءاً تاماً لقيام مجتمع مدني مبني على أساس من التعددية والحزبية، وحق الإختيار، حتى إختفت ndash; إلى حدٍ ما ndash; حرية الرأي، وحرية التعبير.
bull; كأنك ترى أن المرحلة الناصرية قد أعاقت المشروع النهضوي؟!
- إذا فهمنا المشروع التنويري على أنه يشتمل على الديموقراطية، وحرية الرأي، والتفكير العلمي، وحق الإختلاف، وتقوية عمل الحزب داخل الشارع.. إذا فهمنا أن النهضة تقوم على ما ذكرت.. فإن المرحلة الناصرية كانت عائقاً دون تحقيق ذلك.
bull; لكن عبد الناصر قد طرح البديل!!
- نعم جاء ببديل اسمه الحزب الواحد.. حكم الحزب الواحد، حكم المؤسسة العسكرية، وأنا كمثقف واجبي يدعوني أن أتكلم بصراحة وأنا أجهر بهذا الرأي، علماً أنني لست ضد عبد الناصر، فأنا أحد أبناء ثورة 23 يوليو ولولا هذه الثورة، ما كنت قد حصلت على تعليم مجاني أوصلني من الدراسة الابتدائية، وحتى أعلى الدرجات الإعلامية، ثم لا ننسى مكتسبات عظيمة مثل الإصلاح الزراعي، وتأميم القنال وبناء السد العالي، ولكن السؤال الهام هل إن كل تلك المكتسبات التي تحققت لصالح الطبقات الفقيرة والمحرومة أهم، أم أن تحقيق الديموقراطية على الشكل الغربي والتعددية الحزبية التي تتناطح وتتناحر هو الأكثر أهمية؟!
بالطبع المرحلة الناصرية قد اختارت ما هو لصالح الشعب ولكن في النهاية كان الثمن هو تواري المشروع التنويري بالمفهوم الذي أشرنا إليه في بداية الحوار.. ولكن في المرحلة الراهنة، أي منذ عشرين سنة، هاهو المشروع التنويري يعود عندما اختار الرئيس حسني مبارك قيام المجتمع المدني الذي يقوم على سيادة القانون، وعلى التعددية الحزبية، وإن كانت الأحزاب حتى الآن ضعيفة جداً، ولا تمثل أحزاباً حقيقية قوية، إنما هي تعمل ضمن دائرة مجموعات من المثقفين، مجرد جرائد، ليس لها وجود حقيقي في الشارع.. ولكن تمخض عن كل هذا حرية صحافة ليس لها مثيل في أي بلدٍ عربي، وحالة الإنفتاح المدني هذه، قد أثمرت ببروز تجربة حزبية لا بأس بها، تجدد نفسها، أعني الحزب الوطني الذي يضم كوادر تنتسب إلى مؤسسات علمية كبيرة كالجامعات، والنقابات، والاتحادات النسائية والعمالية، وكل أركان المجتمع.. وفي الوقت نفسه، هناك عناصر تهديد تقف في وجه قيام المجتمع المدني، وتهدد حرية الرأي وحرية الصحافة، ويتمثل هذا التهديد بقوة وجود التيارات السلفية المسرفة في الشارع المصري، مع أنه ليس لها حزب، وليس لها كيان سياسي يتحدث باسمها، ومع أن نشاطها غير مشروع، إلا أنها تسعى إلى سلب هذا المجتمع من تحقيق طموحاته الإجتماعية والاقتصادية، من خلال عمل سياسي متفتح على كل شرائح المجتمع المصري، ومن أخطر ما تشكله هذه السلفية من آثار مدمرة في المجتمع، هو الإصرار على سلب المرأة لكل حقوقها.
bull; لماذا لم تستوعب مرحلة الإنفتاح التي يعيش المجتمع في ظلها الحركة السلفية، ما دامت مؤثرة في الشارع المصري كما تقول؟!
- لا.. مرحلة الإنفتاح بدأت نشاطها في عصر أنور السادات لتضرب الشيوعيين، وتقضي على المنجزات التي حققها الفكر السياسي في العهد السابق لأنور السادات، وإستبدال ذلك بالإتجاهات الدينية، وكان الغرض من ذلك الإتجاه أن يقضي على التيار اليساري الذي كان من الممكن أن يستفحل شيئاً فشيئاً في محاولة السيطرة على مقدرات المجتمع، إلا أن التيار الديني هو الذي استفحل بشكل سلفي متطرف، مع أن طبيعتنا كمسلمين تنبذ التطرف بكل أشكاله، وتحب أن يسود الإعتدال.

bull; ألا ترى أن هذه الديموقراطية التي تتحدث عنها، والإنفتاح في حرية الصحافة، هو الذي أعطى تبريراً للبعض أن يجعل المواجهة مع الصهيونية ليست موجبة؟!.. ثم ظهرت طائفة دعاة التطبيع.. فالديموقراطية تحول دون حق الإسلاميين في ممارسة عملهم السياسي من جهة، ولكنها تسمح للتوغل الصهيوني من خلال تطبيع علاقات سياسية وإقتصادية من جهة أخرى..!!
- أنا أرى وقد أكون متطرفاً في هذا الرأي أن محاولة طمس كل مكتسبات المجتمع المدني، من حرية الرأي والديموقراطية، والروح العلمية، ومحاولة تسييد وتقوية التيار السلفي، لدرجة السيطرة على المقدرات الإجتماعية، والمكتسبات التي حصلنا عليها، إنما هي محاولات صهيونية في الأساس!!
bull; تعني أن الصهيونية تلتقي بالأهداف السلفية؟!
- أنا أعتقد أنها مرسومة.. ومرسومة منذ أمدٍ طويل، خذ محاولة إخراج الشباب من استعدادهم للحرب من أجل أوطانهم، أو الإنخراط في نشاط قد يؤدي إلى هذه الحرب.

bull; عفواً.. لم أستوعب هذه النقطة؟
- يعني إخراج الشباب عن طريق: إما التطرف الديني.. أو عن طريق الإنحلال الخلقي والمخدرات، وما شابه ذلك، حتى لا يكون هناك شباب يتهيأون للدفاع عن وطنهم خلال الخمس سنوات القادمة على الأقل لأنهم ndash; أي الشباب ndash; إما مغيّبون في الإتجاهات السلفية، أو مغيّبون تحت وطأة الإنحلال الخلقي و التخدير.. فشبابنا بين هؤلاء وأولئك صاروا يعانون من التدمير الذي أدى إلى شلل حركتهم!!
يتبع