طريف الرئيس التونسي المنصف المرزوقي. انه يهتّم بأمور كثيرة تدور في العالم، فيما يفترض به الانصراف الى شأن واحد وحيد هو تونس. بكلام أوضح، يستغلّ المرزوقي خطابه امام الجمعية العمومية للامم المتحدة للتدخل في شؤون مصر وكأنه ناطق آخر باسم التنظيم العالمي للاخوان المسلمين.
لا يمكن للمرء تجاهل الشجاعة التي كان المنصف المرزوقي يتحلّى بها في الماضي القريب. فهو رجل ينتمي، في الاصل، الى مدرسة سياسية أخرى لا علاقة لها بالاخوان. كان ذلك عندما تجرّأ، قبل سنوات، على الوقوف في وجه النظام التونسي السابق الذي تميّز بضيق افقه السياسي وضيق صدره مع السياسيين الآخرين، خصوصا اذا كانوا معارضين. جاء المرزوقي من مدرسة سياسية ليبيرالية، أو هكذا يفترض. ترفض هذه المدرسة ثقافة هيمنة حزب واحد على السلطة بغض النظر عن منطلقات هذا الحزب.
كيف حصل هذا التحوّل الكبير وكيف يمكن لسياسي ليبيرالي، يعرف ما هو القانون ويتمسّك بقيم العدالة والحقّ والحرّية، القيام بهذا الانقلاب على الذات، الذي هو انقلاب على المبادئ التي نادى بها طوال حياته السابقة؟ هل يكفي منصب الرئاسة الذي وصل اليه المرزوقي أخيرا لتبرير هذا التصرّف الغريب؟ انه تصرّف لسياسي ليبيرالي يضع نفسه في تصرّف حزب متسلط اراد السيطرة على مصر والاحتفاظ بالسلطة الى ما لا نهاية.
الاخطر من ذلك كلّه، أن من يدعم نظام الاخوان في مصر انما يدعم في الوقت ذاته أمرين. الأمر الاوّل يتمثّل في السعي الى تغيير طبيعة المجتمع المصري في العمق بهدف تسهيل عملية السيطرة عليه، على غرار ما حصل في قطاع غزة. أمّا الامر الآخر فهو غض النظر عن انتشار فوضى السلاح في كلّ انحاء مصر، خصوصا في سيناء وذلك بهدف الهاء المؤسسة العسكرية ومنعها من تأدية مهمتها الاساسية المتمثلة في حماية الامن المصري.
هل يتذكّر المرزوقي سلسلة الاعتداءات التي تعرّضت لها القوات المصرية من جيش وشرطة وامن مركزي في سيناء وكيف تصرّف نظام الاخوان تجاه هذه الاعتداءات؟ الا يوجد وجه شبه بين النشاط الارهابي في مصر في عهد الاخوان الذي استمرّ سنة كاملة وما جرى وما يزال يجري على التراب التونسي حيث اغتيالات تستهدف سياسيين واعتداءات على القوات المسلحة، خصوصا في المنطقة القريبة من الجزائر؟
ما يفعله الرئيس التونسي حاليا، بدل الانضمام الى العرب الواعين والشرفاء الذين ساعدوا في انقاذ مصر واخراجها من براثن الاخوان المسلمين، يتمثّل في دعم تيّار ظلامي. ساعد هذا التيّار في منع quot;ثورة الياسمينquot; من تحقيق أي هدف من أهدافها بعدما تبيّن أن حركة النهضة، أي الاخوان في تونس، لا تمتلك أي مشروع من أي نوع كان على أي صعيد كان. لا اجتماعيا ولا ثقافيا ولا اقتصاديا ولا سياسيا. هدف النهضة يبدو واضحا كلّ الوضوح. انه السلطة من أجل السلطة وليس اقامة نظام ديموقراطي حقيقي يجعل من تونس نموذجا يُحتذى به في المنطقة كلّها بدل أن تكون تونس النموذج الذي يجب تجنّبه...كما هو حاصل الآن للاسف الشديد!
لا تحتاج مصر الى دروس من أحد. هناك نظام قام على أنقاض نظام حسني مبارك بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011. استطاع الاخوان المسلمون خطف تلك الثورة بعدما قدّموا سلسلة من الوعود لم يحترموا أيّا منها. كان من بين الوعود عدم السعي الى أن يكون رئيس الجمهورية منهم. حسنا، رضخوا لغريزتهم التي تجسّدها عبارة الشبق الى السلطة، وهو شبق لا شبق بعده. هل هذه هي الديموقراطية التي يعد بها الاخوان الشعب المصري، وهي ديموقراطية تقوم على الذهاب الى صناديق الاقتراع لمرّة واحدة يستغلها الاخوان لتغيير طبيعة المؤسسات المصرية، بما في ذلك القضاء، وجعلها اداة في يدهم بما يسهّل عليهم تكرار تجارب العسكر في معظم انحاء العالم العربي؟
ما يرفضه التونسيون حاليا هو ما رفضه الشعب المصري الذي ثار على حكم الاخوان في الثلاثين من حزيران- يونيو الماضي. وقد لقيت ثورته دعما من المؤسسة العسكرية لاحقا ومن العرب الذين يرفضون سقوط مصر وتحوّلها الى تابع للامارة الطالبانية التي اقمتها quot;حماسquot; في قطاع غزّة.
ما يرفضه الرئيس المرزوقي عندما يهاجم مصر هو الانحياز الى الشعبين المصري والتونسي في توقهما الى الحرية واقامة نظام جديد يستند الى مبادئ الحرية والعدالة والديموقراطية بديلا من الحزب الواحد المتسلط الذي يمثله الاخوان المسلمون بكلّ طبعاتهم.
كان الاجدر بالرئيس التونسي الانضمام الى مواطنيه المطالبين بدولة عصرية ودستور جديد وحكومة مختلفة ترفض تغطية الجرائم المرتكبة مثل الجريمتين اللتين ذهب ضحيتهما شكري بلعيد ومحمد البراهمي. هذا كلّ ما في الامر. لا مجال للحيرة والتردد، لا في مصر ولا في تونس، حين يتعلّق الامر بالقيم الانسانية التي كان المرزوقي ينادي بها عندما كان معارضا.
ما نشهده في تونس حاليا أسوأ بكثير مما شهدناه في عهد زين العابدين بن علي الذي بدأ التونسيون يترحّمون عليه على الرغم من كلّ الشوائب التي تخللت رئاسته. ما يشفع بزين العابدين انه حافظ الى حدّ ما على بعض من قيم الجمهورية التي أسسها رجل كبير اسمه الحبيب بورقيبة تكمن مشكلته في أنه لم يتخل عن السلطة عندما تقدّم به العمر وبات عاجزا عن ممارستها.
في النهاية، لا تستحق الرئاسة التونسية كلّ هذه التضحية بالمبادئ، خصوصا أن السلطة في تونس محصورة بكلّ مفاصلها في مكان واحد، أي لدى النهضة التي هي جزء لا يتجزّا من الاخوان المسلمين. هل انتهى المرزوقي اخوانيا، من أجل منصب فخري لا أكثر، بدل الانحياز الى تونس العصرية والقوى الحيّة في المجتمع، أي لتونس وشعبها الرافض للسقوط في فخّ التخلف والظلم والظلام والظلامية الذي ينصبه له الاخوان؟