لقد ظهر للعيان نزر يسير عن تميز وإبداع السير ساسون حسقيل وزير المالية الخالد فى الحلقة الأولى السابقة. ومن الجدير ذكره فى تاريخه المجيد.
أنّ الحكومة العراقية آنذاك برئاسة ياسين الهاشمى قد فوّضت ساسون الذى كان وزيرا للمالية آنذاك لمفاوضة البريطانيين في 1925 م حول الأمتياز الخاص لشركة النفط العراقية التركية (شركة بريطانية) وطلبه مساهمة الحكومة العراقية فى الشركة البريطانية المستثمرة كما اشترط ساسون أن يكون دفع العوائد للعراق على أساس الذهب وليس العملة الورقية رغم أعتراض أعضاء الوفد العراقي على ذلك لعدم خبرة الوفد بينما كان ساسون خبيرا حاذقا. وقد ذكر ذلك أيضا محمد رضا الشبيبى الذى كان وزيرا للمعارف وهو يمجّد الموقف التاريخى الخالد لساسون آنذاك. ومن الجدير ذكره أنّ ياسين الهاشمى سأل ساسون بصورة خاصة: (كيف تصرّ على المساهمة فى رأس مال شركة النفط، والحال أن خزينتنا خالية وليس لدينا المال الضرورى فضلاً عن تركة الديون العثمانية التى بات العراق معبأ بالديون لها) فضحك ساسون مجيبا (الأمر سهل وبسيط). وفعلا كان كذلك بحنكته وذكائه وحسن تدبيره. وقد قام ممثلو االشركة والمسؤولون الأنكليز بمناقشة ساسون مناقشة شديدة حادة رافضين الخضوع لشروطه والدفع بالذهب ثم قالوا بعد عجزهم عن مناقشته: (إنّ نظرية الذهب هى نظرية قديمة بالية أكل عليها الزمان وليست حديثة عصرية تواكب المقتضيات العمية الراهنة والنظريات الإقتصادية المعاصرة) فقال ساسون: (أنا من تلك العقول القديمة التى عملت أيام الحكم العثمانى كما تعلمون، وعليكم الدفع بالذهب). ولم يتحرّج فى ذلك صلبا ثابتا لايتزعزع فى موقفقه الثابت الرصين مما أجبر الإنكليز على قبول الشرط الصعب المفروض على بريطانيا فى حينها حيث تم تسجيل النص مكتوبا خطيا وممضيا ولأول مرة فى تاريخ بريطانيا العظمى أن يتفق فى معاهدة النفط بشرط أن يكون الدفع بالذهب لا النقود. ثم فاجأهم ساسون بعد الإتفاق حيث أخرج لهم آخر الكتب العلمية والنظريات الإقتصادية الإنكليزية التى تتحدث عن احتمالية نزول العملة الورقية وبقاء الذهب مرتفعا مما يعنى بوضوح أنه كان متابعا لآخر النظريات الإقتصادية العالمية وليس تقليديا قديما كما أراد البريطانيون وصفه أو زحزحته عن مواقفه. ثم ثبت فى الواقع الخارجى إبان الحرب العالمية الثانية وهبوط سعر العملة البريطانية بشكل هائل بينما كان الذهب مرتفعا بشكل واضح وكبير مما أثبت صحة نظرية ساسون الإقتصادية وحدسه المستقبلى الثاقب وفى الوقت نفسه فقد أفاد الميزانية العراقية وعوضها بشكل رائع ومشهود. هذا وقد اعترف حتى الخصوم بهذا الموقف أمثال فائق السامرائى نائب رئيس حزب الإستقلال والذى كتب فى جريدة (لواء الإستقلال) سلسلة مقالات حول امتيازات النفط العراقى، وفى مقاله الخامس يقول (لقد كان إصرار المرحوم السير ساسون حسقيل فى مفاوضاته مع شركة النفط البريطانية سنة 1925 م على وجوب الدفع للشلن بالعملة الذهبية يبدو غريبا فى وقته آنذاك ولم يعرفه الكثيرون لأن الباوند الإسترلينى يستند على قاعدة الذهب أيضا مما يورث الإلتباس فيها لكن وعيه الكبير وحدسه المفرط أثبت صحة موقفه وأفاد العراق فائدة قصوى وضاعف للعراق أرباحه وفوائده مما يحسب لساسون بشكل مميز رائع). وقد قدّر العراقيون، في ما بعد، أهمية هذا الموقف العظيم الذى خدم العراق كثيرا وأنعشه اقتصاديا بعد أن كان مدينا هزيلا فى ضائقة كبيرة لايحسد عليها. أما البريطانيون الذين خسروا من الصفقة كثيرا فإنّهم لم ينسوا له ذلك مما جعلهم يتدخلون فى المراحل اللاحقة لمنع ساسون أن يكون وزيراً فى المستقبل كما تؤكدها الوثائق البريطانية نفسها.
لقد اراد الملك فيصل منه مبلغ 20 دينار عراقي من اجل بناء مدرسة في الديوانية بعد مطالبة الملك من اهلها لبناء تلك المدرسة. المال ليس للملك شخصيا بل لبناء مدرسة، لكن ساسون رفض ذلك بحزم وقال للملك : (لقد أُقرّت الميزانية في البرلمان وليس هناك مجال للتلاعب في اي رقم مما أقرّه البرلمان) ولم يتنازل عن موقفه أمام الملك نفسه وطلبه الخاص مما جعله يكبر فى عين الكثيرين ومنهم الملك نفسه فى وطنيته وقانونيته وشرف مهنته.
ويذكر نجدت فتحي صفوت انه عثر في أوراق رفائيل بطي على وصف لحادثة رواها له محمد رضا الشبيبي الذي كان عضواً في وزارة ياسين الهاشمي الأولى، وساسون حسقيل وزيراً للمالية فيها. فقد عرض على مجلس الوزراء نظام وزارة المالية، واراد البعض أن يعارض اقتراحات ساسون، فغضب وقال لزملائه الوزراء هذا موضوع اختصاصيّ، وهو من اختصاصي، وكما أني لا أعارض الهاشمي في الشؤون العسكرية، ولا فلانا في موضوع الإدارة الداخلية، فلا أوافق على معارضتي في موضوع هو من اختصاصي، والنظام من رأيي، فان وافقتم عليه فبها وخيراً، والا فلا أعمل معكم، وغادر المجلس. وقال ياسين: يجب أن نخضع للمنطق وحاجة البلد، ولا معنى للعصبية. وأخيراً ذهب الهاشمي وأرجعه إلى مجلس الوزراء في جلسة أخرى، وصودق على نظام وزارة المالية حسب اقتراح ساسون بحذافيره. ويروي انه في احدى المرات التي ترأس فيها اللجنة المالية، كان ياسين الهاشمي مقرراً لتلك اللجنة. وكان ساسون دقيقاً في شؤون الميزانية العامة، في حين أن ياسين كان يحاول أن يحيد بأعمال اللجنة إلى الخلافات السياسية. فلما ضايقه ساسون في الأمر استقال من مقررية اللجنة، فقال ساسون لدى اطلاعه على استقالة الهاشمي، ان ياسين يريد باستقالته أن استقيل انا من رئاسة اللجنة، لأنه يريد اقحام السياسة في اعمالها، وانا حريص على الروح البرلمانية، ولذلك أستقيل أنا بدلاً منه. واستقال من رئاسة اللجنة ومن عضويتها أيضاً. وغيره من المواقف الخالدة
. يعتبر ساسون من الشخصيات العراقية المهمة جدا في تاريخ العراق المعاصر، وأحد اهم أعمدة الدولة العراقية وكان يؤمن بوحدة العراق وبالديمقراطية والمساواة والعدالة الإجتماعية وكان مؤمناً بالعراق الذى لايفرق بين الأديان والمذاهب والفرق وكل العراقيين متساوون فى الحقوق والمواطنة. شغل ساسون حسقيل منصب وزير المالية 5 مرات في فترة الحكم الملكي. وقد أسهم بشكل كبير في وضع الأسس الصحيحة لقيام الاقتصاد العراقي وبناء ماليته على وفق نظام دقيق،
وكان منظم أول ميزانية مالية في تاريخ العراق، وأول منظم لهيكل الضرائب على الأسس الحديثة... وقد حرص على التقاليد البرلمانية الصحيحة وتطبيق النظام الداخلي لمجلس النواب العراقي، وكان قد شارك في مؤتمر القاهرة عام 1921، برئاسة ونستون تشرشل وزير المستعمرات البريطانية، والذي خصص لمباحثات قيام المملكة العراقية فى حينها، والتى سوف أتناولها فى الحلقة القادمة.