منذ القدم أدرك القادة والزعماء فى جميع أنحاء العالم أنهم يستطيعون الانتصار على خصومهم المتحدين بطريقة أسهل وبكلفة أقل إذا مااستطاعوا بث الخلافات والفتن بينهم. فكانوا يبثون العيون والجواسيس بين صفوف أعدائهم لهذا الغرض، كما فعل المستعمرون الغربيون بسكان آسيا وأفريقيا الذين كانوا يتفوقون على الغربيين بثرائهم وكثرة نفوسهم، فلما فرقوهم إستعبدوهم لسنين طويلة. ومثال على ذلك الهند التى كانت نفوسها حوالي 200 مليون نسمة قبل أن تستعمرها بريطانيا التى كانت نفوسها لا تزيد على 30 مليون نسمة لمدة تزيد على 150 عاما، فقام الجواسيس الانكليز وعملاؤهم فى داخل الهند بتحريض الهنود بعضهم على بعض وخاصة المسلمين والهندوس، فحصلت مذابح هائلة بين الطرفين ذهب ضحيتها الملايين. ولم تغادر بريطانيا الهند الا بعد أن قسمت القارة الهندية الى دولتين متنافستين هما الهند المتعددة الأديان و باكستان المسلمة فى سنة 1947، وما زالت الثقة معدومة بين الطرفين حتى اليوم.

وفى نهاية الحرب العالمية الأولى (1914-1918) ظهرت الى العلن اتفاقية سايكس/بيكو التى عُقدت بين بريطانيا وفرنسا سنة 1916 والتى بموجبها قُسّمت اراضى الهلال الخصيب بين بريطانيا وفرنسا، وكان العراق من حصة بريطانيا الى حين استقلاله عنها إسميا سنة 1932. وحرص البريطانيون على تعميق العداوات بين أهل العراق أنفسهم، فوقعت العداوات بين العرب والكورد، وشعر الكورد بالغبن لعدم حصولهم على دولة خاصة بهم، كما شعر الشيعة بالخيبة لاستحواذ السنة على المناصب الكبيرة فى الحكومة الجديدة، فكلفت تلك الخصومات العراق غاليا بالأرواح والأموال والممتلكات. وكلما تهدأ الخصومات بعض الشيء، يقوم أعداء العراق بتأجيجها سواء من قبل الأجانب أم من قبل العراقيين أنفسهم من مشايخ الدين أو السياسيين او بتعاون الاثنين معا، لأغراض خاصة لا علاقة لها مطلقا بالدين، وهو ما يحدث اليوم، وينذر بشر مستطير.

لا يمكن إنكار وجود خلافات مذهبية بين السنة والشيعة فى العراق منذ وفاة الرسول (ص) ومبايعة أبى بكر الصديق بالخلافة، فانقسم المسلمون ما بين مؤيد ومعارض لتلك البيعة، وتكرر هذا الأمر بعد مقتل الخليفة عمر بن الخطاب (رض) فانحاز قسم من المسلمين الى علي بن ابى طالب (ع) وآخرون انحازوا الى عثمان بن عفان (رض) وتمت البيعة لعثمان وكان الامام علي ضمن المبايعين. وهذه الأمور مفصلة فى كتب التأريخ. ولا شك فى أن الخلاف حول من كانت له الأحقية بالخلافة سوف يبقى قائما الى ما شاء الله، ولكنه سيتضاءل مع ازدياد ثقافة الناس، لأن السنة والشيعة كلهم يؤمنون بالله واليوم الآخر ونبوة رسوله الكريم، ويحجون الى بيته، ويتوجهون بالصلاة الى الكعبة المشرفة. وفى كل الأحوال فان الشعوب المتحضرة تعتبر القضايا الدينية من الأمور الشخصية بين الفرد ومن يعبد، ولهم حرية إقامة الطقوس الدينية بشرط عدم الاضرار بالآخرين بأي صورة من الصور، ومن يخالف تحاسبه القوانين السائدة فى كل دولة. ونفس الشيء ينطبق على رؤساء الدول وحكامها، فيخدمون شعوبهم بالتساوي دون تفريق او تمييز. ولو فعل العراقيون الشيء نفسه بعد القضاء على حكم البعث، لكان العراق اليوم يرفل بالنعيم. ولكن ما حصل هو الاقتتال على المناصب وتبادل التهم والشتائم بين المتنافسين، والتى اشتدت مؤخرا بسبب إقتراب موعد الانتخابات.

فى يوم الجمعة 27/12/2013 اعتقلت قوات الجيش النائب أحمد العلوانى بالجرم المشهود، لاطلاقه النار على قوات الجيش التى حاولت اعتقال أحد الموجودين فى بيته. أحمد العلواني هوالنائب الغائب عن البرلمان منذ أكثر من سنة لانشغاله فى الجلوس بالمخيمات التى يعتصم بها ارهابيون من القاعدة انضموا الى المحتجين من محافظة الانبار، وقدموا مطاليب معظمها تافه وآخر تعجيزي، وهددوا بالزحف على بغداد وقطع رؤوس الشيعة واسقاط الحكومة. وبالاضافة الى أحمد العلواني وخالد العلواني فقد انضم اليهم رافع العيساوي الذى شغل منصب وزير المالية منذ سنة 2010 ولكنه لا يقنع بمنصب أقل من منصب رئيس وزراء. وانضم اليهم نكرات من أمثال على حاتم السليمان الذى يدعى بأنه رئيس عشائر الأنبار والذى لا يكف عن تهديد الحكومة ومن يؤيدها من الأنباريين من بينهم رئيس مجلس انقاذ الأنبار السيد حميد الهايس الذى أكد للماكي أن المحافظة بحاجة الى الجيش لتطهيرها من (داعش)، وأيده فى ذلك محافظ الأنبار السيد أحمد خلف الدليمي.

إن العلواني والعيساوي والسليمان ومن لف لفهم أصابوا أهل الأنبار بأشد الضرر وسببوا لهم مصائب لا تعد ولا تحصى. فبسبب المعارك أصبحوا يعانون الجوع لانقطاع وصول المواد الغذائية اليهم وارتفاع أسعارها، وتوقفت الأعمال وأغلقت معظم المدارس أبوابها، وكل يوم يمر يزيد فى معاناتهم وتعاستهم. وقد بدأ البعض منهم بمغادرة الفلوجة والرمادى الى خارج المحافظة حفاظا على أرواحهم إذا ما اشتد أوار المعارك. أما السياسيون والمشايخ الذين أسسوا للفتنة فهم يحزمون أمتعتهم للهروب الى خارج العراق للانضمام الى عوائلهم التى سبقتهم الى هناك.

أما السياسيون الطامعون بالمناصب خارج الأنبار من أمثال أسامة النجيفي وأثيل النجيفي واياد علاوي وظافر العانى فانهم يزيدون النار وقودا بتصريحاتهم وتصرفاتهم اللاعقلانية والبعيدة كل البعد عن مصلحة العراق، فان انسحاب نوابهم من البرلمان فى هذا الوقت عمل صبياني، وكان الأجدر بهم أن يتدخلوا بين المتنازعين لتهدئة الأمور للحفاظ على وحدة البلد وسلامة شعبه. أما الهارب المحكوم عليه بالاعدام طارق الهاشمي فقد أضحك الجميع عليه عندما أعلن قبل يومين عن تقديم استقالته من منصب نائب رئيس الجمهورية بعد مشاورة مع قطر، وهذه مهزلة أخرى تضاف الى مهازله السابقة.

وتغتنم داعش وكل المنظمات الارهابية الأخرى كل فرصة لتواصل أعمال القتل والتدمير التى تصيب السنة والشيعة على السواء.

واذا لم يتدارك العقلاء الأمر ويخمدوا الفتنة، فسيحل الدمار بمدن الأنبار كما حصل فى سورية، وقد يمتد الى جميع أنحاء العراق، ويتدخل الغرباء وتكون بذلك نهاية العراق كما نعرفه اليوم.