إن استعراضا بسيطا لتقارير الشفافية الصادرة عن الأمم المتحدة يوضح أن أكثر الدول فسادا هي الأشد فقرا، ولا غرو في ذلك إذ أن الفقر ظاهرة تنجم عن شح الموارد أحيانا وعن سوء توزيعها أحيانا أخرى. ونحن في العام العربي لدينا السببان، فباستثناء الدول النفطية، فإن الثروات الطبيعية في البلدان العربية محدودة، فإذا ما اجتمع الشح مع سوء التوزيع فإن النتيجة الحتمية هي فقر غالبية السكان.
وعلى الرغم من أن الإسلام غلظ عقوبة السرقة وحددها بقطع يد السارق إلا أن هناك خلافا حول العقوبة المقررة لسرقة المال العام وقد ورد في صحيح البخاري كتاب الحدود, باب لعن السارق(8/198) أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال :quot;لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يدهquot;، لكنه عليه السلام قال في المقابل، حسبما أخرجه أبو داود، آتاب الحدود، باب القطع في الخلسة والخيانة، رقم 4391 quot;ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطعquot; وفي تفسير هذا الاختلاف في العقوبتين فقد أورد قال الشيخ الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه quot;الفقه الإسلامي وأدلتهquot; : quot;وكذلك لا يقطع السارق من بيت المال؛ لأنه مال العامة، فيكون له فيه ملك وحق. والدليل هو أن عمر رضي الله عنه لم يقطع من سرق من بيت المال، فقد كتب عامل لعمر يسأله عمن سرق من مال بيت المال، فقال: laquo;لا تقطعه فما من أحد إلا وله فيه حقraquo; وروى الشعبي أن رجلاً سرق من بيت المال، فبلغ علياً كرم الله وجهه، فقال: laquo;إن له فيه سهماًraquo; ولم يقطعه.quot;
وربما يعود الاختلاف في العقوبة من الحد إلى التعزير في حقيقة أن سرقة المال العام في صدر الإسلام كانت تدور حول أشياء بسيطة كعباءة أو قلادة أو بر أو شعير ,ولا شك أن من يسرق بيضة يسرقها لأنه جائع، بينما السرقة اليوم تفوق مليارات الدولارات ولا يسرقها جياع وهي تلحق ضررا بأعداد غفيرة من الناس بل وتكاد تميتهم جوعا وقهرا، لأنهم يعلمون أن محنتهم ليست ناجمة عن فقر الدولة عموما ولكن عن الفساد المستشري في أجهزتها.
وبناء على ذلك، فلا أحد ينكر أن تغير الأزمان يوجب تغيير الأحكام. وباب الاجتهاد ينبغي أن يظل مفتوحا، ومصادره هي القرآن والسنة والإجماع وشرع من قبلنا والقياس والمصلحة المرسلة والعرف ومذهب الصحابي والاستصحاب. فعن أبي سعيد الخدري أن الرسول عليه السلام قال quot;لا ضرر ولا ضرارquot; وهو حديث حسن رواه ابن ماجة والدارقطني، وبما أن الحديث الشريف نص على أنه لا قطع لمنهتب أو مختلس، فلا ضير في تعديل الحكم دراء للمفاسد التي نشأت حديثا والتي جلبت ويلات لا يتصورها عقل، إذ أن الإسلام لم يغلق باب الاجتهاد وهو دين مرن يتكيف مع مستجدات الحياة في مختلف العصور. إذ لا يجوز أن يظل حكم الاختلاس هو التعزير فقط والجريمة مهولة ويعاني بسببها ملايين الناس. فبينما لا تجد شريحة كبيرة من الشعوب ما يسد رمقها، هناك من أبناء جلدتهم من يتنقلون بين ملذات الدنيا، دون أن يسألهم أحد quot;من أين لك هذا؟quot;
إن على شيوخنا الأجلاء الذين تناولوا شؤون المرأة بالتفصيل المنير أن يتناولوا قضايا أكثر أهمية وتمس صلب حياتنا اليومية بل وأصبحت مسألة وجودية تتعلق بالحياة والموت وهي سرقة المال العام وما هو الحكم في الشريعة الغراء بالضبط.