تودع دول الربيع العربي السنة الثالثة بعد اشعال فتيل ثوراتها من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية، ولا شيء يقطع الشك باليقين بأن مساراتها الآن تتجه نحو الديمقراطية، فلئن كانت الشعارات الأولى مبشرة بالحرية، فتطورات الأحداث واتجاه مسارها في هذا البلد أو ذاك، تكشف عن تهميش بل وإلغاء المطلب الديمقراطي لصالح قضايا ومطالب أخرى وبدواعي مختلفة.
إن هذا الانحراف أو الردة الثورية يفرغ لا محالة الثورات من محتواها ومن القيم التي ترمي إليها، كما وينقلب عقابا للشعوب الثائرة، مما يقودها إلى التسليم والاستكانة لتنبلج الأجواء لقيام مستبد جديد، يتولى القيام بدور الراعي والحامي لمصالح الشعب.
لقد قدمت هذه الثورات دليلا قاطعا على نضج المواطن، مسقطا بذلك أسطورة الوصاية التي مورست عليه منذ قيام دولة ما بعد الاستعمار. فلم يعد بحاجة إلى وصاية من أحد، أو تحويل السيادة من الشعب إلى نخبة من الأفراد يزعمون أنهم ناطقون باسم الخالق أو باسم الشعب أو باسم أية جهة. لأن الوصول إلى حالة كهذه يهدد بجمود سياسي قد ينزلق إلى استبداد جديد وهو ما بدا واضحا في بعض الدول، فضمان الديمقراطية ليس بالنوايا وتجييش العواطف والنفوس ضد هذا الطرف أو ذاك لمصلحة طرف أخر.
إن اللحظة التأسيسية التي تعيشها هذه البلدان بمخاضها العسير، تستدعي التوافق على شروط اللعبة الديمقراطية بين مختلف الفرقاء، دون احتكار أي طرف حق تقرير ذلك بمعزل عن الآخرين، وهذا واقع الحال ndash; مع الأسف - في بعض الدول. فزرع نبتة الديمقراطية في مجتمعات عاشت قرونا من الاستبداد رهان على هذه الثورات تحقيقه، من خلال مشاركة الجميع - لأن حقوق ملكية الثورة لم تسجل باسم أحد؛ فهي صنيعة الشعوب وملك لها-، في تثبيت دعائم ومقومات النظام الديمقراطي، هذا دون السماح لأي طرف بتنصيب نفسه وصيا على المستقبل الديمقراطي للشعوب، فمازالت الديمقراطية في هذه الدول تبحث لها عن ديمقراطيين، وقد يخفت نجمها قبل أن تعثر عليهم.
تفاديا لهذا المصير المجهول الذي يتهدد الديمقراطية على الشعوب الثائرة أن تعيد ترتيب أولوية الأسئلة بل والثورة من جديد، وهذا ما يفرضه واقع الحال؛ مثل ما حدث في بعض النماذج الثورية، من أجل الإجابة على سؤال quot;كيف سنحكمquot;؟ ولن تتأتى الإجابة عليه إلا بعملية إرساء حقيقي لقواعد النظام الديمقراطي، وإقامة المؤسسات، وصياغة القوانين التي ترسخ الديمقراطية، وتسمح لها بإنتاج ذاتها متى صارت مقومات النظام متينة وممأسسة.
إذ بالإمكان إعادة إنتاج الديمقراطية من دون ديمقراطيين ndash; لكن ليس في واقع هذه الدول الأن- لأنها في هذه المرحلة تصمد وتتطور بغض النظر عن قيم وأفكار من تولت دفة الحكم والتسيير. وتفرض هذه المرحلة - أي إعادة إنتاج الديمقراطية لذاتها - أن تكون قواعد وأسس الحكم قد أرسيت، ونشأ للديمقراطية حراس في القضاء والصحافة والمجتمع المدني.
قد يحتمل نظام ديمقراطي قائم وجود quot;لاديمقراطيينquot;، ويمكن تخيل سياسيين لا يحملون قيما ديمقراطية فعلا (السلفيين مثلا)، لكن ينصاعون لقواعد الديمقراطية انصياعا، في نظام ديمقراطي يسود فيه حكم ممثلي الأغلبية والفصل بين السلطات واستقلالية القضاء وقوة فعاليات المجتمع المدني، وغيرها من القواعد التي تكشف على نظام قائم وقادر على إعادة إنتاج ذاته.
كان غياب الديمقراطية أحد أسباب اندلاع الثورات، لكن هذا ليس ضمانة كافية على أن تكرس الديمقراطية بعد قيامها، ولنا في الثورة الإيرانية (دولة رجال الدين)، وقبلها الثورة الروسية (دولة الرجل الواحد) خير مثال على أن الثورات لا تفضي دائما إلى تأسيس أنظمة ديمقراطية.
وحتى لا تلقى هذه الثورات مصير الثورات التي أكلت أبناءها، بتحريف مسارها في المرحلة الانتقالية التي تعيشها والسطو عليها من طرف تيار أو فئة أو حزب أو مؤسسة، لا بد من الحرص على عناصر يجب الانضباط لها لتجاوز المرحلة الانتقالية والتحول نحو الديمقراطية.
أولا: المرحلة التأسيسية للنظام الديمقراطي لحظة حاسمة في مسار الدولة على الجميع المشاركة فيها، فقواعد وأسس الدولة تبنى في هذه الفترة الانتقالية.
ثانيا: الابتعاد عن الحسابات السياسوية الضيقة بين مختلف الفرقاء، بتشكيل حكومة وحدة وطنية تدبر هذه المرحلة الدقيقة، وتصرف تركة الأنظمة البائدة بإرثها الثقيل، وتعمل على تصفية وتهييئ الأجواء للتنافس والاستحقاقات السياسية بعد هذه المرحلة.
ثالثا: إنجاح المرحلة الانتقالية يتم بحوار وطني يتوج بمصالحة، وليس بكثرة الانتخابات، والتي يعتبرها أبو الدستور الأمريكي جيمس ماديسون مضرة بالاستقرار الوطني، فالانتخابات ليست لحل النزاعات ذات الطابع السياسي بين الفرقاء، فتلك محلها الحوار والجدال بالمنطق والعقل، بينما تظل هي نهجا شفافا للاختيار بين مجموعة من الحلول التي توصل إليها أو وافق عليها الفرقاء.
إن المعنى الحقيقي للثورة هو تغيير آليات ممارسة السلطة وليس تغيير أشخاص الحكم، لذلك فنجاح الثورات سيقاس بنجاح في إدخال مجتمعات إلى عصر الديموقراطية، على خطى التشيك والهند والبرازيل وإفريقيا الجنوبية، وغيرها من المجتمعات التي عرفت في السابق تاريخا شبيها بمجتمعاتنا، واستطاعت أن تتخلص نوعيا من طابعه الاستبدادي الخانق.
إنه التحدي الذي يواجه هذه الشعوب والذي عليها العمل من أجل تحقيقه بإعادة الثورات إلى مسارها الحقيقي، بل وتدشين ثورة جديدة إن اقتضى الحال ذلك على شاكلة الثورة الفرنسية التي يرجع غوستاف لوبون نجاحها في كتابه quot;روح الثوراتquot; إلى نفسها التصحيحي منذ اندلاعها.
ـــــــــــــــــ
*باحث مغربي [email protected]