بات بمقدور الكثير من معاصري هذه المرحلة تلمس التغيرات الجارية على صعد كثيرة في الواقع العالمي، البعض يفضل تفسيرها وفق مرتكزات نظريات العلاقات الدولية التي ترجع التغيير إلى ديناميكية العلاقات بين الأمم وما تفرزه تلك من صعود وهبوط للدول، أي حصر الظاهرة ضمن نطاق تراتبية القوى بين الدول، انطلاقا من المقياس التقليدي الذي يحصر قوة الدول بقوة إنتاجيتها ودبلوماسيتها وعسكرها ومزج ذلك بجملة من المعطيات التأشيرية التي تلحظ مؤشرات صحية وتعليمية واستهلاكية لقياس قوة الدولة. لكن إشكالية هذا النموذج طابعه الاتوماتيكي حيث يمكن من خلاله وضع الولايات المتحدة الأمريكية واليابان مثلاً على سوية واحدة، دون أن نلحظ أثراً لواقع الانخراط الدولي لكلا البلدين وفاعلية وتأثير ذلك الانخراط في التوجهات العالمي. وبعيداً عن سليبات وإيجابيات ذلك الانخراط وتقيمنا له، يبقى ثمة فوارق كبيرة بين صعود الصين بقيمها التي تنزع نحو الفائدة وحدها دون أي اعتبار للآثار الإنسانية التي تخلفها تلك السياسات، وبين هبوط أوروبا بكل إرثها التفاعلي مع البيئات والعوالم الدولية.
وبعيداً عن أي موقف قيمي مسبق، يهمنا تفسير تقنيات حالة التغيير التي يشهدها العالم، ومعرفة الخلفيات الحقيقية لمثل هذه الظاهرة، والتي ببدو أن الفكر السياسي العربي بعيد عن الاهتمام بها، أو في أحسن الأحوال يبدو منقسماً تجاهها فيما يبدو انه انعكاس للمواقف من القضايا الراهنة التي يعيشها العالم العربي. بعيدا عن ذلك ثمة أمور عدة تقف وراء هذا التغيير:
-تعدد وتنوع القضايا والمشاكل التي تطرحها البيئة الدولية، من صراعات محلية ومشاكل إقليمية وتنافس دولي، الأمر الذي يتطلب صرف جهود وموارد كبيرة لمتابعتها أو علاجها، وهو ما لم يعد بمقدور طرف أو أكثر الإحاطة به، في زمن بات الإرشاد في الإنفاق يشكل الاستثمار الأكبر لدى بعض صناع القرار في الكثير من القوى الفاعلة، مقابل هبوط قيمة الأيديولوجيات كمحرك في صنع السياسة الدولية.
-تعدد وتنوع الفاعلين، ففي حين كانت التصنيفات الكلاسيكية تركز على الدول والمنظمات الدولية بوصفها الفواعل الأساسية في البيئة الدولية، وكانت تجري التفاعلات والصراعات بينها ضمن أطر وسقوف معينة ويجري الاتكاء إلى طرق فض المنازعات الكلاسيكية أيضا، التوافق والتفاوض والتحكيم، فإن العالم الحالي يشهد تنوعاً كبيراً في الفاعلين الدوليين بات يشمل الأحزاب والمنظمات الصغيرة وحتى الأفراد، ولا يعتمد آليات فض النزاعات السابقة، وهذا الأمر بات يشكل عبئاً كبيراً على الدبلوماسية التقليدية التي وجدت نفسها عاجزة عن إدارة تلك التطورات أو حتى التكيف معها.
-تبدل مضامين القيم الوطنية والعالمية، إذ مع تراجع تأثير الأيديولوجيات كمحرك للسياسة العالمي، وسيطرة أنماط تعبوية تثقيفية تركز على القيم الفردية والاستهلاكية، وتحصر الأفراد ضمن نطاق محدد من العناصر، تراجع اهتمام الأفراد بالسياسات الكبرى، وهذا انعكس بدوره على قضايا السياسة الخارجية للدول وقد ساعد على ذلك استخدام تقنيات التواصل الاجتماعي في التواصل بين ممثلي الشعب والحلقة الوسيطة من صنع القرارquot; النوابquot; وأثر هؤلاء على الدوائر العليا في صناعة القرار.
-سيادة النمط الاستهلاكي العالمي وتشكيله للمزاج الشعبي وأثره الضاغط، صحيح أن هذا النمط ليس جديدا في حياة الكثير من الشعوب، لكنه شهد في السنوات الأخيرة اتساعا عامودياً في عناصره الأمر الذي جعل الفرد العالمي يدور في فلكه ويسعى دائماً إلى التوافق مع مقتضياته ومتطلباته، في زمن بات يقاس فيه التقدم الفردي والعصرنة بمقدار استهلاكه للعناصر التي تنتجها الحضارة الاستهلاكية العالمية، ولا يكاد ينجو من هذا الواقع سوى بعض المجتمعات الهامشية.
تستعصي هذه الظاهرة على فهم الكثير من معاصريها، وخاصة اولئك الذين عاصروا فترة الحرب الباردة وما تبعها من سيطرة القطب الواحد لسنوات قليلة، ذلك أن أدواتهم في تفسير السياسات الدولية لا زالت تقبع عند تخوم نظريات المؤامرة والسيطرة، صحيح أن هناك جيلاً سياسياً لا زال يتعيش على تلك الأنماط السياسية، لكن الوقائع ما تلبث تعاندهم وتجبرهم على التغيير، والواضح أن الأجيال الصاعدة لا تستيغ كثيراً تلك الأنماط السياسية التي سادت في المرحلة السابقة، ولا شك أن ذلك عامل رئيس في عزل تلك السياسات وتهميشها.