من مفكرة سفير عربي في اليابان

حينما وصلت للعاصمة طوكيو في شهر أغسطس من عام 2005، بعد ما عينت سفير لمملكة البحرين في اليابان، أبهرت بما قرأته، وشاهدته، ولمسته، في اليابان من تاريخ، وحضارة، وتكنولوجية، وأخلاقيات سلوك، وروحانيات دينية. وحينما زرت سعادة سفير جمهورية مصر العربية في ذلك الوقت لأستمع لنصائحه عن واجبات عملي الجديد، حيث أن الدبلوماسية المصرية معروفة بمهنيتها وكفاءتها، قال لي: quot;يا دكتورنا العزيز، ستجد في هذا البلد مسلمين بدون الإسلام.quot; وبعد قضائي ما يقارب التسع سنوات، بدأت أستوعب ما قصده سعادة السفير المصري. فمع أن اليابان دولة علمانية، وروحانيات شعبها تجمع بين الشنتو والبوذية، ولكن أخلاقيات الشعب الياباني هي الاخلاقيات التي دعى لها الإسلام، دين الخلق، والمحبة، والرحمة، والتعاطف، والإيثار (أي حب الغير)، والسلام، والعمل المبدع والمتقن وباخلاص.
كما لفت نظري بعد وجودي في اليابان طوال هذه الفترة هو بأن نظرتي للحياة بدأت تتغير. فمن العادة أن ننظر في بلادنا العربية للنقطة الصغيرة السوداء بعمق في اللوحة البيضاء، ونكبرها في نظرنا، وعقلنا، لنزداد تشاؤما، وقلقا، وحزنا، وكرها. بينما يتجنب الياباني تكبير النقطة السوداء، ويتفاءل بما في اللوحة من بياض ناصع، بل يصغر النقطة السوداء، ويحاول العمل على التخلص منها، بعمله المبدع، باخلاص، وتفاني، بدون نقد، وتهم، وحزن، وتشاؤم.
كما تلاحظ عزيزي القارئ بأن الإنسان الياباني يتجنب أية فرصة للخلاف، بل يحاول أن يتلاقى مع الاخرين في نقاط الاتفاق، للعمل معهم في تناغم منتج جميل. وحتى حينما خسر الشعب الياباني الحرب العالمية الثانية، وانتهت الحرب بأرض اليابان المحروقة بالقنابل التقليدية والقنبلتين النوويتين، توقف لحظة، وفكر برصانة، وقرر أن يجمع كل ما لدية من رزانة وحكمة، ليعمل من خلال الدستور الذي فرضه عليه العدو المنتصر، ليحقق تنمية بلاده. وليصبح خلال عقود قليلة ثاني اقتصاد عالمي، بل ومن خلال العمل مع العدو، ليحول العدو لصديق درب، تعلم منه العلوم المتقدمة، والتكنولوجية المتطورة. وحتى حينما تعرضت جزره الشمالية، مع انتهاء الحرب العالمية الثانية للاحتلال، لم يبرز بين الشعب الياباني عنتريات ثورية مفرقة، شغلته عن خطة التنمية الوطنية، بل جمد الشعب الياباني، بواقعية، وحكمة، جميع التحديات المعقدة، وتفرغ للبناء والتنمية.
وهنا يذكرني كل ذلك ببلدي مملكة البحرين الجميلة، فبعد ما يقارب لي من عقد من الزمن بعيدا عنها، ما عدا زيارات عمل قصيرة، انبهرت حينما زرتها زيارة مطولة مؤخرا، مع ضيوف من اليابان. حيث تفرغت مع الوفد الياباني لزيارات متنوعة، لإعادة تفهم تاريخها، وحضارتها، وتطوراتها الحديثة، في البنية التحتية، والإسكان، والاتصالات، والتعليم، والرعاية الصحية، ومتعة التسوق. كما لفت نظري ما استطاعت أن تحققه خطة الرؤية الاقتصادية لعام 2030، التي تصبو لتنويع الاقتصاد البحريني، وتحويل المملكة لمركز متقدم في التعليم، والرعاية الصحية، والسياحة العائلية، والتكنولوجية المتقدمة، ومختلف الصناعات الصحية الدوائية والتكنولوجية، ليتضاعف دخل الفرد البحريني مع عام 2030، كما عملت الحكومة بكل جهد محاولة خفض نسب البطالة لأقل من 3.5%.
ومع بدأ أنتفاضات، ما سمي بquot;الربيع العربيquot; في تونس مع نهايات عام 2010، وانتشاره في بعض الدول العربية، بل وفي باقي دول العالم في عام 2011، كحقيقة لانتفاضة شباب العولمة، طالب فيه شباب العالم تطوير قوانين عولمة تقوي من كفاءة الحكومات، وتقلل من سيطرة قطاع شركات الخاصة العملاقة على اقتصاد العولمة، لتحقيق اصلاحات اقتصادية، توفر لشباب العالم فرص مستقبلية مرضية لطموحاتهم. وإذا بفئة انقلابية تستغل هذه الانتفاضة في مملكة البحرين لتحويل النظام السياسي لجمهورية ثيولوجية على النمط الايراني الفاشل. ومنذ تلك اللحظة تعرضت مملكة البحرين لهجمة اعلامية شرسة من دول مجاورة، تركت أعلامها التلفزيوني حر في مهاجمة ما تم من اصلاحات سياسية واقتصادية خلال العقد الماضي، بل وحرضت البعض على الفوضى باسم الثورية.
وتلاحظ عزيزي القارئ نتائج هذه الفوضى من المعارضة المتطرفة بوضوح حينما تزور بعض القرى البحرينية، لتشاهد جدران المنازل مطلية بالخطوط السوداء، واسفلت شوارعها متعرجة بسبب الإطارات المحروقة، وضعف الانضباط بين بعض السواق. فبالرغم من أن مملكة البحرين مشهورة بانضباط شعبها، وأدب سلوك سواقها، وانتظام نظام مرورها، تلاحظ بأن مفهوم فوضى التطرف أدى لتحول السياقة المنضبطة في الشارع، إلى سياقة فوضوية خطرة، ستؤدي لزيادة إصابات حوادث، كما سترتفع فيها عدد الوفيات السنوية. ويبقى السؤال لقيادات المعارضة المتطرفة: أليس الدين هو خلق، وانضباط، واخلاص، وتفاني، وإيثار لمصلحة الاخرين، أم فوضى، وانانية، وعدم انضباط، وتخريب؟
وبينما تدور هذه الخواطر في مخيلتي، قرأت مقالا، أحببت أن اشارك في نقاشه عزيزي القارئ. فقد تؤدي هذه النقاشات لتتفتح زهور المحبة، والتعاطف، والرحمة، واتزان الحكمة والرصانة، في ربيع حياتنا الطبيعي، لتستمر في مملكتنا الجميلة الاصلاحات التنموية، والتي بدأها جلالة الملك في عام 2001. وقد كرر جلالته اثناء ترؤسه جلسة مجلس الوزراء في شهر ديسمبر الماضي، على: ضرورة التصدي لبث الكراهية، والاستعاضة عن ذلك ببث الثقافة الوسطية، والانضباط، والتمسك بالثوابت الشرعية والوطنية، عبر المنابر، وضرورة حماية المسار الديمقراطي، والحفاظ على جو التعايش، وقبول الاخر، الذي يتميز به المجتمع البحريني منذ الأزل (انتهي). وخاصة بعد أن اعتقد البعض بعد ما سمي بثورات الربيع العربي، بأن الثورات، وتغير الحكومات، ستحل جميع التحديات الاقتصادية، والاجتماعية، والاخلاقية، والروحية، التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية. ولم يتصور هؤلاء بأن معالجة تحديات التنمية المعقدة، في مجتمعات العولمة الجديدة، تحتاج لتغير مجتمعي ذهني أخلاقي روحي، مع تطوير العقل العربي بأكمله. وقد لا تكون الديمقراطية التي يحلم بها البعض فقط انتخابات وبرلمانات، بل تحتاج لتطوير ذكاء الانسان العربي، ليستوعب التحديات الاقتصادية، والاجتماعية، والروحية، فيتعامل مع معضلاتها بنجاح. وهنا نحتاج لانتخاب قيادات واعية، وحكيمة، وناجحة، وعلى أسس قيم موضوعية.
وقد تكون أحد التحديات الاخلاقية المعادية للتالف البشري، ومعرقلة لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية هو معضلة انعدام التناغم المجتمعي الاخروي الروحي، والدنيوي العلمي، وذلك لخلق مجتمع بشري يجمع بين العقل المستنير، ليعمل صاحبه لدنياه وكأنه سيعيش للأبد، باستخدام ما وهبه الخالق، جلة عظمته، من موهبة ذكاء ذهني، جسمي، اجتماعي، عاطفي، وليعمل لآخرته بذكائه الاخلاقي الروحي، وكأنه سيموت غدا، ليتآلف البشر، ويتناغم العمل، فينعم الجميع بحياة رغيدة، هنيئة، مزدهرة.
فقد كتب العالم البيولوجي والمفكر والفيلسوف البوذي الفرنسي، ماثيو ريكارد، في صحيفة اليابان تايمز في الثامن من شهر يناير عام 2014 يقول: أكد استاذ علوم البيولوجي بجامعة هارفرد، البروفيسور مارتن نوواك، بأن التعاون هو مخطط الابداع خلال عملية التطور من الخلية الوحيدة، وإلى المخلوقات العديدة الخلايا، وحتى كثيب النمال، ومجتمعات القرى والمدن. ومن المهم مع محاولة الانسان حل تحديات العولمة الجديدة، علينا أيجاد طرق جديدة للتعاون، وبأن يكون أساس هذا التعاون وحب الغير. فالرغبة في مساعدة الاخرين وبدون اعتبارات مصلحة شخصية، ليست مثالية نبيلة، بل ما هو إلا الإيثار، أن تحب للناس ماتحبه لنفسك، لرفع مستوى نوعية ومعنوية حياتنا، وحياة أجيالنا القادمة، وهي الحقيقة التي يعتمد عليها بقائنا في الوجود، والتي تحتاج لبصيرة وفطنة لفهمها، وشجاعة لقولها. وتواجه البشرية اليوم ثلاث تحديات كبيرة: ضمان الحياة الكريمة لكل البشر، وزيادة القناعة الحياتية، فالقناعة كنز لا يفنى، وحماية كوكبنا الأرضي من التلوث. ومع الأسف يصعب على التحليل التقليدي الاقتصادي الغربي للكلفة والربحية التوفيق بين هذه المتطلبات، لأنها تحتاج لمدى أطر زمنية مختلفة، فنحن نقلق على وضعنا الاقتصادي سنة تلو الأخرى، ونحاول تفهم سعادتنا طيلة حياتنا، بينما يستفيد من قلقنا على البيئة أجيالنا القادمة.
فتحتاج خلق الإيثار لمبادلة مصلحة محدودة، فالمستثمر في الإيثار وحب الاخرين لن يغامر أبدا بمدخرات الحياتية للآخرين، بالرغم من أهمية ربحيته الشخصية. بينما سيفكر دائما المواطن الصالح كيف سيكون تأثير أفعاله على أبناء مجتمعه، كما ستحترم الأجيال الغيرية بيئة الكوكب الذي تعيشه، لتترك لأطفالها عالم قابل للحياة. فالإيثار وحب الاخرين يجعلنا جميعا في وضع أفضل. وقد تبدو هذه نظرة مثالية للحياة، فقد تدعي علوم النفس والاقتصاد وبيولوجية التطور في القرن الماضي بأن البشر تجمعهم طبيعة الأنانية، ولكن الأبحاث الجديدة في العقود الثلاثة الماضية تؤكد بأن الإيثار وحب الإنسان للغير موجودة بين البشر منذ الأزل، وتبدأ من العائلة والمجتمع لتحتضن البشرية جمعاء، بل أيضا المخلوقات الأخرى. كما أن الإنسان الغيري، الغير الأناني لا يعاني من أعماله الخيرة، بل يستفيد منها بشكل غير مباشر، بينما يسبب الانسان الأناني ماسي لنفسه وللغير. فصراع بين العقل والضمير صراع ابدي خطير يقلق النفس، ويحزن الضمير، ويقصر العمر، بالأمراض المزمنة اللاوبائية.
وبينت الأبحاث العلمية بأن الإنسان يمكن أن يتعلم خلق الإيثار وحب الغير، ويمكن أن يطور الإنسان في نفسه ثلاثة صفات للإيثار وحب الغير: التعاطف، والتي تعني تفهم ومشاركة الإنسان لاحساسات الاخرين، ودماثة الخلق في حب نشر السعادة بين الاخرين، والرحمة والتي تعني الرغبة في تخليص الاخرين من معاناتهم. كما أن المجتمع يمكن أن يتحول إلى مجتمع يجمع افراده ثقافة الإيثار، وحب الغير، ومصلحة الاخرين. كما تبين ابحاث التطورات المجتمعية، بأن القيم الانسانية يمكن أن تتغير بسرعة أكبر من تغير الجينات، لذلك لو أردنا أن نطور عالم إيثار محب للغير علينا أولا فهم أهمية حب الغير، وبعدها علينا زرع بذوره في المجتمع، لتتفرع أغصانه، وتورد أزهاره الجميلة بين أفراده، وبعدها نعزز ثقافة التغير في مجتمعاتنا. وليس هناك موقع أهم لزراعة هذه الخلق أكثر من زرعها في نظامنا الاقتصادي، فالإصرار المستمر الغير الواقعي في تسجيل نمو رقمي ربحي مادي يرهق كوكبنا، ويزيد من اللامساواة، ويقلل العدالة فيه، كما أن تخلف أرقام النمو الاقتصادي التقليدية ستخلق مشاكل أخرى.
فالدفع بالبشر لتنافس على أصول منكمشة، وموارد منخفضة، سينشر البطالة والفقر والعنف، لذلك نحتاج للتوازن، ليستطيع مجتمع العولمة تخليص مليار ونصف من البشر من الفقر، مع الرزانة في البذخ بين أغنياء المستهلكين، الذين يسببون تردي البيئة. ولن نحتاج لزيادة الضرائب لتحقيق ذلك، بل علينا اقناع الاثرياء بأن الخلود في الربحية المادية ليست مستدامة، وليست ضرورية لحياة نوعية، فعليهم أن يقللوا من غرائزهم، ويلعبوا دورا في عالم متزن اقتصاديا. ويمكن أن نزرع هذه المفاهيم تناغم المستدامة بنشر مؤشرات السعادة البشرية، والمحافظة على البيئة، مع تحسين الناتج المحلي الاجمالي للدول. فمثلا حكومة البوتان تضع اعتبارا للثراء الاجتماعي، والثراء الطبيعي، لشعبها بالإضافة للناتج المحلي الاجمالي. كما يمكننا أن نؤسس بجانب بورصات المال والاسهم، بورصات للمنظمات الاخلاقية، كالجمعيات المجتمعية، وبنوك التنمية، والبنوك التعاونية، وبنوك القروض المصغرة، ومجموعات التجارة العادلة. وقد أخذت بعض الدول كالبرازيل، وجنوب افريقيا، وبريطانيا، خطوات عملية نحو تحقيق ذلك. وقد تؤدي الخطوات الصغيرة لتحولات كبيرة، وحينما تبرز قيم الإيثار المجتمعية، سينتشر ذلك في الاقتصاد المجتمعي، ليستفيد جميع افراد المجتمع، والأجيال القادمة، بل وكوكبنا الارضي أيضا. ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان